عبد الله بن حمد الخثران
لا يمتري أحد في أن اللغة العربية وعلومها تنزل من علوم الإسلام ومعارفه
منزلة اللسان من جوارح الإنسان ، ولا نبعد كثيراً إذا قلنا : بل منزلة القلب من
الجسد ؛ لأنها لسان الإسلام الأسمى ، بها نزل القرآن الكريم ؛ وهو الدستور المهيمن
على جميع شؤون الحياة .
فإذا اعتور اللغة العربية أو أصابها جمود باعد بينها وبين ألسنة المسلمين
وعقولهم ؛ واستعجم عليهم فهم كتاب الله تعالى ، وأغلقت دونهم أبوابه ؛ فيصعب
عليهم فهم أسراره التشريعية .
ولو أن باحثاً رمى نظره إلى ماضي المسلمين لرأى في يسر ووضوح أن
عهود التقدم والقوة ، وأزمان المجد والسيادة في تاريخ الأمة الإسلامية كانت مرتبطة
أشد الارتباط بفهم القرآن الكريم وأساليبه فهماً كان منطلقه فهم أسرار هذه اللغة
والنَّهْل من منابعها ، ولم تكن العناية باللغة
العربية في عصور الإسلام الذهبية بأقل
من العناية بأي شأن من شؤون الدين ؛ بل لقد كان الدين دافعاً قوياً على العناية بها ،
وحسبنا أن نعلم أن قواعدها لم تُدوَّن إلا صوناً للقرآن الكريم من أن يَدْلِفَ إليه اللحن .
ولقد دأب العلماء منذ القديم على أن يصلوا بين علوم العربية والدين الإسلامي
بأوثق الصلات ؛ حتى إن بعضهم يقدمها في التعليم على جميع العلوم ؛ من أجل أن
فهم الأحكام وأخذها من الأصول متوقف على التفقه
في فنون الإعراب .
إن هذا الفرض الديني من دراسة اللغة العربية هو المنهج الذي قامت عليه
دراسة اللغة العربية في العصور الإسلامية المزدهرة ، وهو المنهج الذي أصَّله
العلماء القدامى ، وحثوا على الأخذ به ؛ مما سنبينه إن شاء الله .
* أقوال الصحابة والسلف في أهمية اللغة العربية :
تعد اللغة العربية كما أسلفنا مفتاح الأصلين العظيمين : الكتاب والسنة ؛ فهي
الوسيلة إلى الوصول إلى أسرارهما ، وفهم دقائقهما ؛ ولهذا السبب عُني السَّلف
بعلوم اللغة العربية ، وحثوا على تعلمها والنَّهل من عبابها . يقول عمر بن الخطاب
رضي الله عنه : « تعلموا العربية ؛ فإنها من دينكم ، وتعلموا الفرائض فإنها من
دينكم » [1] . وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما : « أما بعد :
فتفقهوا في السنة ، وتفقهوا في العربية ، وأَعْرِبُوا القرآن ؛ فإنه عربي » . ففي
توجيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمران :
الأول : الدعوة إلى فقه العربية .
الثاني : الدعوة إلى فقه الشريعة .
لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال ؛ ففقه العربية هو الطريق إلى فقه الأقوال ،
وفقه الشريعة هو الطريق إلى فقه الأعمال [2] .
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : « ما كنت أدري ما معنى ] فَاطِرِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْض
[ ( الأنعام : 14 ) ، حتى سمعت امرأة من العرب تقول : أنا
فطرته . أي : ابتدأته » [3]
، وقال : « إذا خَفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في
الشعر فإنه ديوان العرب » .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « إن الله لما أنزل كتابه باللسان
العربي ، وجعل رسوله مبلغاً عنه الكتاب
والحكمة بلسانه العربي ، وجعل السابقين
إلى هذا الدين متكلمين به ، ولم يكن سبيل
إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا
اللسان ، صارت معرفته من الدين ، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين ... » [4] .
وفي كلام ابن تيمية ما يستدعي الوقوف ، وهو أن بين اللغة العربية والعقيدة
الإسلامية ارتباطاً عضوياً وثيقاً لا يماثله
ترابط آخر في أي من المجتمعات القديمة
والمعاصرة ؛ لأن اللغة العربية هي لغة
الإسلام ، ولغة كتابه العزيز ، ولغة رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا فإن الاهتمام بها والعناية بها إنما هو استكمال
لمقوم من مقومات العقيدة الإسلامية التي نجتمع جميعاً على إعزازها والدعوة إليها .
وانطلاقاً من هذا المفهوم ؛ فإننا نعتقد أن تعلم اللغة العربية والاهتمام بها ليس
مهنة تعليمية أو قضية تعليمية فحسب ، وإنما هو قضية عقدية ، ورسالة سامية نعتز
بها .
ولهذا يقول الرازي : « لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن
والأخبار ، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم ؛ كان العلم بشرعنا موقوفاً
على العلم بهذه الأمور ، وما لا يتم الواجب
المطلق إلا به ، وكان مقدوراً للمكلف ؛
فهو واجب
» [5] .
وما ذكره الرازي صحيح ؛ لأن علم أصول الفقه إنما هو أدلة الفقه ، وأدلة
الفقه إنما هي الكتاب والسنة ، وهذان المصدران عربيان ، فإذا لم يكن الناظر فيهما
عالماً باللغة العربية وأحوالها ، محيطاً بأسرارها وقوانينها تعذر عليه النظر السليم
فيهما ، ومن ثم تعذر استنباط الأحكام الشرعية [6] منهما ؛ ولذا يقول الشافعي :
« من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم » ، وقال أيضاً : « لا أُسأل عن
مسألة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها من قواعد النحو » [7] ، وقال
أيضاً : « ما
أردت بها ( يعني العربية ) إلا الاستعانة على الفقه » [8] .
* أقوال أهل اللغة في أهمية اللغة العربية
لدارس الكتاب والسنة :
لقد أبان عن هذه الأهمية أهل اللغة أنفسهم . يقول الزمخشري : « وذلك أنهم
لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها ؛ إلا
وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع ، ومكشوفٌ لا يتقنَّع ، ويَرَوْن الكلام في معظم
أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنياً على علم الإعراب » [9]
.
وما ذكره الزمخشري صحيح ؛ وذلك لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من
الكتاب والسنة ، وأهل العقد والحل من الأمة
على معرفة موضوعاتها لغة من جهة
( الحقيقة والمجاز ) ، والعموم والخصوص ، والإطلاق ، والتقييد ، والحذف
والإضمار ، والمنطوق والمفهوم ، والاقتضاب ، والإشارة ، والتنبيه وغير ذلك ؛
مما لا يعرف في غير علم العربية [10] .
وقال ابن جنِّي : « إن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها ، وحاد
عن الطريقة المثلى إليها ؛ فإنما استهواه واستخف حِلْمَه ضعفُهُ في هذه اللغة الكريمة
الشريفة التي
خوطب الكافة بها » [11] .
وقال أبو حيان في البحر المحيط في معرض ثنائه على سيبويه رحمه الله قال :
« فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير ، وترقت إلى التحرير والتحبير ؛ أن
يعتكف على كتاب سيبويه ؛ فهو في هذا الفن المعوَّل والمستند عليه في حل
المشكلات إليه
» [12] .
ويفهم من كلام الصحابة والسلف وأقوال اللغويين أنه ليس المقصود من تعلم
اللغة العربية الاقتصار فقط على القواعد
الأساسية التي تتوقف وظيفتها على معرفة
ضوابط الصحة والخطأ في كلام العرب ، وإنما المقصود من تعلم اللغة العربية
لدارس الكتاب والسنة والمتأمل فيهما ؛ هو فهم أسرارها والبحث عن كل ما يفيد في
استنطاق النص ، ومعرفة ما يؤديه التركيب القرآني على وجه الخصوص ؛
باعتباره أعلى ما في العربية من بيان ، وقد نبه على هذه الخاصية الزجاجي في
كتابه «
الإيضاح في علل النحو » ؛ حيث يقول : «
فإن قيل : فما الفائدة في تعلم
النحو ؟ ... فالجواب في ذلك أن يقال له : الفائدة فيه للوصول إلى التكلم بكلام
العرب على
الحقيقة صواباً غير مبدل ولا مغير ، وتقويم كتاب الله عز وجل الذي
هو أصل
الدين والدنيا والمعتمد ، ومعرفة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة
معانيها على الحقيقة ؛ لأنه لا تفهم معانيها على صحة إلا بتوفيتها حقوقها من
الإعراب » [13] .
ولهذه الأهمية التي نبه عليها العلماء السابقون جُعِلَت اللغة العربية
شرطاً من
شروط المفسر ، وشرطاً من شروط المجتهد في الفقه .
* أهمية اللغة العربية للمفسر لكتاب الله عز وجل :
قال الزركشي : « واعلم أنه ليس لغير العالم بحقائق اللغة وموضوعاتها
تفسير شيء من كلام الله ، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها ؛ فقد يكون اللفظ
مشتركاً وهو يعلم أحد المعنيين والمراد المعنى الآخر » [14] .
ولهذا السبب يقول مالك رحمه الله : «
لا أُوتَى برجل غير عالم بلغة العرب
يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً » [15] ، ولذا أيضاً نجد التفاسير مشحونة بالروايات
عن سيبويه و الأخفش و الكسائي و الفراء وغيرهم .
فالاستظهار لبعض معاني القرآن الكريم وأسراره نابع من الاستعانة بأقاويلهم ،
والتشبث بأهداب فسرهم ، وتأويلهم ، كما قال الزمخشري في المفصل [16] .
وتزداد أهمية تعلم اللغة العربية حين بَعُد الناس عن المَلَكة والسليقة اللغوية
السليمة ؛ مما سبب ضعف المَلَكات في إدراك معاني الآيات الكريمة ؛ مما جعل من
الأداة اللغوية خير معين على فهم معاني القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وقد نبه ابن
خلدون على ذلك بقوله : « فلما جاء الإسلام ، وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي
كان في أيدي الأمم والدول ، وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع
من المخالفات التي للمستعربين من العجم ؛ والسمع أبو الملكات اللسانية ؛
ففسدت
بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتبار السمع ، وخشي أهل الحلوم منهم أن
تفسد تلك الملكة رأساً بطول العهد ؛ فينغلق القرآن والحديث على الفهوم ، فاستنبطوا
من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد ، يقيسون عليها
سائر أنواع الكلام ، ويلحقون الأشباه منها بالأشباه » [17] .
ولهذا حرص العلماء في العصور المتقدمة على التأليف في إعراب القرآن
ومعانيه ؛ مما يدل أيضاً على أهمية اللغة العربية في فهم الكتاب العزيز ، بل إن
بعض هذه الكتب منها ما يسمى بـ ( معاني
القرآن ) ؛ مما يوحي بأهمية الإعراب
في فهم المعاني ، والدليل على ذلك ما جاء في كشف الظنون حين عَدَّ « إعراب
القرآن »
علماً من فروع علم التفسير ، وقد قام بهذا العمل علماء في النحو واللغة ،
فاستفاد منهم المفسرون ، فهذا تفسير الطبري قد أودع فيه معظم آراء النحويين
كسيبويه والكسائي والأخفش والفراء وشواهدهم ؛ حيث بلغت شواهده الشعرية ما
يقرب من ثمانمائة وألف شاهد شعري ، غير ما اشتمل عليه من أقوال العرب
وأمثالهم .
ومما يجب التدقيق في فهمه بالنسبة
للمفسر لكتاب الله ما يلي :
1 - معرفة أوجه اللغة ؛ وهو أمر ضروري في اختيار ما يناسب النص ،
وقَصْر المعنى على الوجه المراد ، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى :
] وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى [ ( الضحى : 7 ) ؛ فإن لفظة « الضلال » تقع على
معان كثيرة ، فَتَوَقَّعَ البَعْضُ أنَّه أراد « بالضَّلال » الذي هو ضد « الهدى » ،
وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على مذاهب قومه أربعين سنة ،
وهذا خطأ فاحش ؛ فقد طهره الله تعالى لنبوته ، وارتضاه لرسالته ، ومن سيرته صلى
الله عليه وسلم رد على مزاعمهم إذ سُمِّي في الجاهلية الأمين ، وكانوا يرتضونه
حكماً لهم وعليهم ، والله سبحانه وتعالى
إنما أراد « بالضَّلال » الذي هو الغفلة كما
قال في مواضع أخرى : ] لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى [ ( طه : 52 ) أي لا
يغفل [18] سبحانه وتعالى
عما يقولون علواً كبيراً .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : « هو ضلاله وهو في صغره في شعاب
مكة ، ثم رده إلى جده عبد المطلب ، وقيل :
ضلاله من حليمة السعدية مرضعته ،
وقيل ضل في طريق الشام حين خرج به عمه أبو طالب » [19]
.
2 - معرفة الصِّيغ وما تدل عليه من معنى ؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تفسير القرآن
الكريم بما لا يليق أو فهم المعنى غير
المراد ، ومن ذلك على سبيل المثال : ] مَنْ
عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [ ( فصلت : 46 ) ،
وغير ذلك من الآيات التي ورد فيها نفي الظلم عن الله سبحانه وتعالى بصيغة
« فعَّال » ؛ ففي هذه الآية وما أشبهها وردت لفظة « ظلاّم » بصيغة المبالغة ،
ومعلوم أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل
من أصله ، مثال ذلك قولك : زيد ليس
بنحَّار للإبل . لا ينفي إلا مبالغته في
النحر ، فلا ينافي أنه ربما نَحَر بعض الإبل ،
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات
هو نفي الظلم من أصله عن الله سبحانه
وتعالى ؛ أجيب عن ذلك بناءً على فهم اللغة العربية ؛ وهو أن المراد نفي نسبة
الظلم إليه سبحانه ؛ لأن صيغة « فعّال » قد جاءت في اللغة العربية مراداً بها
النسبة فأغنت عن ياء النسب ، ومثاله في لغة العرب قول امرئ القيس :
وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنني
وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّال [20]
أي ليس بذي نَبْلٍ .
وعلى هذا أجمع المحققون من المفسرين واللغويين [21] .
3 - معرفة الأوجه الإعرابية : فمما يجب معرفته للمفسر معرفة أوجه
الإعراب ؛ لأن المعنى يتغير بتغير الإعراب ، ويختلف باختلافه ، وعلى سبيل
المثال لو أن قارئاً قرأ : ] وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ [ ( الإِخلاص : 4 ) برفع ( كفو )
ونصب ( أحد ) لكان قد أثبت كفواً لله ؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً ، ولو أن
قارئاً قرأ : ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [ ( فاطر : 28 ) ، برفع لفظ
الجلالة ونصب ( العلماء ) لوقع في الكفر ؛ لأن المعنى يفرض رفع العلماء فاعلاً ،
ونصب لفظ الجلالة مفعولاً به ؛ لأن المراد حصر الخوف من الله في العلماء لا
حصر الخوف من العلماء في الله ، كما نلاحظ أن الوقف بالسكون على آخر العلماء
اختياري لا شيء يمنعه ، أما نصب لفظ الجلالة فلازم لا يجوز فيه الوقف العارض ؛
أي لا يتم المعنى بدون النصب ، بل إن الحركة لها دور في المعنى ولو لم تكن
إعراباً ، ويدل على ذلك لزوم كسر الخاء في قوله تعالى : ] هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [
(
الحديد : 3 ) ، وكسر الواو في قوله تعالى : ] هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ [
( الحشر : 24 ) . فإن فتحها يؤدي إلى الكفر .
* أهمية اللغة العربية للفقيه :
جَعَل علماء أصول الفقه من شروط المجتهد أن يكون عالماً بأسرار العربية
وبخاصة «
علم النحو » ، قال الأنصاري الحنفي : « من شروط المجتهد أنه لا بُدَّ
من معرفة التصريف والنحو واللغة » [22] ؛ لأن الشريعة عربية ولا سبيل إلى
فهمها إلا بفهم كلام العرب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، كما ذكر ذلك
صاحب « المحصول في أصول الفقه » [23] .
ولكن العلماء يفرقون بين طبيعة العمل الاجتهادي ؛ فمنه ما يتعلق باستنباط
المصالح والمفاسد مجرداً من اقتضاء النصوص
لها ، وإنما العلم بمقاصد الشريعة ،
فهذا العلم لا يلزم له معرفة واسعة في العلوم العربية ، وإنما يلزم العلم بمعرفة
مقاصد الشريعة . وإن تعلق الاستنباط بالنصوص
الشرعية فلا بد من اشتراط العلم
بالعربية [24] .
وقد مر قول الشافعي : « ما أردت بها ( يعني العربية ) إلا الاستعانة على
الفقه » ، فالعربية وسيلة من وسائل الاهتداء إلى بعض الأحكام الفقهية من نصوص
الشريعة ، وقد نبه العلماء الأوائل على هذه
الأهمية في استنباط الأحكام الشرعية ،
ومن هؤلاء على سبيل المثال :
1 - القرافي ( ت 682 هـ ) ، في كتابه « الاستغناء في أحكام الاستثناء » .
2 - الإسنوي ( ت 772 هـ ) ، في كتابه : « الكوكب الدري » .
3 - أبو بكر محمد بن عبد الله ، المعروف بابن العربي ، صاحب كتاب :
« أحكام القرآن الكريم » .
4 - القرطبي في تفسيره ؛ حيث إنه كثيراً ما يعبر في الرد على بعض
الأقوال بقوله : « وهذا كله جَهْلٌ باللسان والسنة ومخالفة إجماع الأمة » [25] .
ولا أدل على ذلك من جَعْل « النحو » أحد ثلاثة مصادر : منها استمداد
أصول الفقه ، ( وهذه المصادر : علم الكلام ،
وعلم العربية ، والأحكام الشرعية )
[26] ، فإن تحديد الدلالة اللفظية قد يتوقف عليها تقرير الحكم الشرعي ؛ لأن
الأسلوب العربي في لغة القرآن الكريم يتميز بالتصرف في فنون القول ، وتكثر فيه
الألفاظ التي تمثل أكثر من معنى ، ومن ذلك على سبيل المثال :
1 - لفظة « اللمس » الواردة في قوله تعالى : ] أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [ ( النساء : 43 ) ، فمن الفقهاء من حدد معنى « اللمس »
بالاتصال بالمرأة ، ومنهم من حدده بمعنى « المس » فقط .
2 - ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً » [27]
، قاله
لنسائه فحسبنه « من الطول » الذي هو ضد « القصر » ، فظنت سودة إحدى
زوجاته أنها المرادة ، فلما ماتت زينب رضي
الله عنها قبلها علمن حينئذ أن المراد
بالطول هو الفضل والكرم ، وكانت زينب أكثرهن صدقة ، وهذا يوافق كلام العرب
فهم يقولون : « فلان أطول يداً » في حالة الكرم [28] .
وقد فطن بعض العلماء إلى أهمية تلك المعرفة ومنهم الراغب الأصفهاني
( ت 552 هـ ) في كتابه « المفردات في غريب القرآن » ؛ حيث تناول في
هذا الكتاب التحديد الدقيق بين دلالات الألفاظ في القرآن الكريم ، وكذلك فعل
الزمخشري في كتابه « أساس البلاغة » ؛ حيث وضح الاستعمالات المختلفة للفظ ،
وما يضيفه الاستعمال من دلالة ( حقيقية أو مجازية ) ، كما فطن إلى ذلك أيضاً
الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه « الرسالة » [29]
، كما ذكر السيد البطليموسي
في كتابه « التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين » [30] ،
فقد ذكر أن الإعراب له تأثير بيِّنٌ في الأحكام الفقهية وتوجيهها ؛ فالمعاني
تختلف باختلاف وجوه الإعراب ، ويختلف الحكم
تبعاً لذلك ، وعلى سبيل المثال :
لو قال شخص : له عندي مائةٌ غيرُ درهم . برفع ( غير ) لكان مقراً بالمائة كاملة ؛
لأن « غير » هنا صفة للمائة ، وصفتها لا تنقص شيئاً منها [31] . ولو قال :
له
عندي مائةٌ غيرَ درهم . بنصب ( غير ) لكان مقراً بتسعة وتسعين درهماً ؛ لأنه
استثناء ، والاستثناء إخراج ما بعد حرف
الاستثناء من أن يتناول ما قبله . ولو قال
لزوجته : أنت طالق إن دَخَلْتِ الدار . بكسر همزة ( إن ) ؛ لم تطلق حتى تدخل
الدار ؛ لأن ( إن ) للشرط . ولو قال : أنت طالق أن دَخَلْتِ الدار . بفتح همزة
( أن ) ؛ وقع الطلاق في الحال ؛ لأن معنى
الكلام : أنت طالق لأن دخلت الدار ؛
أي من أجل أنك دخلت الدار ؛ فصار دخول الدار علة طلاقها لا شرطاً في
وقوع طلاقها [32] .
بل إن الحكم يختلف باختلاف تصاريف الكلمة ؛ فلو أن رجلاً حلف ألا يلبس
مما غزلته فلانة ، فلا يحنث إلا بما غزلته
قبل اليمين ، ولو قال : مما تغزله . فلا
يحنث إلا بالذي تغزله بعد اليمين ، فلو قال : من غَزْلِها . دخل فيه الماضي
والمستقبل [33] .
وعلى هذا يجب أن يكون اهتمامنا نابعاً من هذا المفهوم ، وهو ارتباط اللغة
العربية بالدين والتراث ، فالواجب يقتضي ترسيخ هذا المفهوم ؛ لأنه سوف يكون
الحارس بعد الله على هذه اللغة الشريفة ، ويمكن تلخيص هذا المفهوم في الفقرات
التالية :
1 - النظر إلى اللغة العربية على أنها لغة القرآن الكريم والسنة المطهرة ،
ولغة التشريع الإسلامي ؛ بحيث يكون الاعتزاز بها اعتزازاً بالإسلام وتراثه
الحضاري العظيم
.
2 - النظر إلى اللغة العربية على أنها عنصر أساسي من مقومات الأمة
الإسلامية والشخصية
الإسلامية .
3 - النظر إليها على أنها وعاء للمعرفة والثقافة بكل جوانبها ، ولا تكون
مجرد مادة مستقلة بذاتها للدراسة ؛ لأن الأمة التي تهمل لغتها أمة تحتقر نفسها
وتفرض على نفسها التبعية الثقافية .
إذا عملنا على ذلك وضعنا سياجاً قوياً يحفظ اللغة العربية في كل حين وفي
كل زمان ؛ لأن اللغة قد أصبحت لغة العقيدة
والعلم على حد سواء ؛ لأن بين اللغة
العربية والوجود
الإسلامي في أي مكان وفي أي زمان تلازماً واضحاً في الماضي
والحاضر والمستقبل ، فحين يتعرض الإسلام لأنواع الغزوات والنكبات تكون اللغة
العربية هي أداة التفكير والتعبير والاتصال
؛ تحفظ عليه وجوده الحضاري ، وهي
التي تساعده على أن يستأنف هذا الوجود بعد كل هجمة أو تعثر .
وهناك أسباب ملحة في الوقت الحاضر تدعونا إلى الاهتمام باللغة العربية ،
ومن هذه الأسباب :
1 - أن هناك شعوباً إسلامية تعيش في قارات العالم تتطلع إلى استخدام اللغة
العربية والحرف العربي ، ومن حق هذه الشعوب الإسلامية علينا أن نيسر لها
السبيل إلى ذلك ، ونمكن لها منه ، فإذا هي وجدتنا منصرفين عن لغتنا ، أو أننا
ضائقون بها ، أو أننا لا ننزلها المنزلة السامية أو أن حركة تعلمها أو تعليمها تمضي
في سلسلة من التعثرات ؛ كان ذلك مدعاة
لانصرافهم عنا وعنها ، وهو الأمر الذي
يهدد بالضعف والتراجع عن روابط الأخوة الإسلامية التي نعتز بها ونعمل من أجلها .
2 - ما نراه من تهديد للجبهة اللغوية التي هي ثغر من الثغور التي يحاول
الأعداء الولوج منها للقضاء على تراث الأمة الإسلامية العظيم ، وهذا التهديد يكمن
في سيطرة اللهجات المحلية التي زاحمت الفصحى في ميادين متعددة لا سيما وسائل
الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة ، كما يكمن في اللغات الأجنبية
التي أصبح
إتقانها عند كثير من أبنائنا علامة التقدم الحضاري [34] .
وهذا كله يستدعي منا الاهتمام باللغة العربية وتعميمها في كل المجالات .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
________________________
(1) انظر : إيضاح الوقف والابتداء ، تأليف أبي بكر محمد
بن القاسم بن بشار الأنباري ، تحقيق محيي
الدين عبد الحميد رمضان ، مطبوعات ، مجمع اللغة العربية
بدمشق 1395هـ ، 1971م ، 1/ 15 .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ، 207 .
(3) الإحكام في أصول الأحكام ، للآمدي ، 1/51 .
(4) اقتضاء الصراط المستقيم ، ص 162 .
(5) المحصول في علم أصول الفقه ، للرازي ، 1/ 275 .
(6) انظر : الكوكب الدري ، للإسنوي ، ص 45 .
(7) شذرات الذهب ، لابن العماد الحنبلي ، 231 .
(8) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 1/75 .
(9) المفصل ، للزمخشري ، ص 3 .
(10) الإحكام في أصول الأحكام ، 1/ 827 .
(11) الخصائص ، 3/ 245 .
(12) البحر المحيط ، 1/3 .
(13) الإيضاح في علل النحو ، للزجاجي ، 95 .
(14) البرهان في علوم القرآن ، للزركشي ، 1/ 295 .
(15) الإتقان في علوم القرآن ، للسيوطي ، 2/ 179 .
(16) المفصل ، ص 3 .
(17) مقدمة ابن خلدون ، ص 426 .
(18) انظر : الإنصاف ، لأبي محمد عبد الله بن السيد
البطليموسي ، ص 72 .
(19) البحر المحيط ، 8/ 486 .
(20) ديوان امرئ القيس ، ص 49 .
(21) انظر : البحر المحيط ، 3/131 ، وتفسير أبي السعود ،
2/121 ، وروح المعاني ، للآلوسي ،
4/143 ، وأضواء البيان ، للشنقيطي ، 7/140 .
(22) فواتح الرحموت ، لعبد العلي الأنصاري ، 2/ 363 .
(23) المحصول في أصول الفقه ، 3/ 35 .
(24) الموافقات في أصول الشريعة ، للشاطبي ، 4/ 162 .
(25) تفسير القرطبي ، 5/17 ، انظر : تفسيره لقوله تعالى
: ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ
النِّسَاءِ )
[النساء : 3] .
(26) انظر : الأحكام في أصول الأحكام ، 1/ 7 ، 8 .
(27) أخرجه مسلم ، رقم 2452 .
(28) انظر : الإنصاف ، للبطليموسي ، ص 21 .
(29) انظر : الرسالة ، ص 52 ، تحقيق أحمد شاكر .
(30) انظر : التنبيه ، للبطليموسي ، ص 184 .
(31) شرح المفصل ، لابن يعيش ، 1/11 .
(32) انظر : معاني الحروف ، للرماني ، ص 174 ، والتنبيه
، للبطليموسي ، ص 188 ، وشرح
المفصل ، 12 ، وانظر الموافقات ، للشاطبي ، وما حصل مع
أبي يوسف والكسائي ، 1/ 84 .
(33) الكوكب الدري ، ص 308 .
(34) انظر : توصيات ندوة خبراء ومسؤولين بحث وسائل تطوير
وإعداد معلمي اللغة العربية في الوطن
العربي ، المعقودة في الرياض سنة 1397هـ ، ص 4 ، 5 .
(( مجلة البيان ـ العدد [182] صــ 66 شوال 1423
ـ ديسمبر 2002 ))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق