الأربعاء، 17 فبراير 2016

[الإسلام لعصرنا] ... قضية العلمانية والدين في البلاد الغربية ...

أ . د . جعفر شيخ إدريس [*]
jaafaridris@hotmail.com
      إذا استمعت إلى ما يقوله بعض العلمانيين في بلادنا خيّل إليك أن العلاقة بين
الدين والدولة أو بين الدين والسياسة لم تعد قضية في البلاد الغربية ، وأن القوم
هناك قد اتفقوا جميعاً المؤمنون منهم بالأديان وغير المؤمنين على أن الدولة يجب
أن تكون علمانية وأن الدين لا دخل له بالشؤون العامة ، بل يجب أن يكون
محصوراً في الحياة الخاصة . لكنك إذا تتبعت ما يقوله الغربيون أنفسهم ، ولا سيما
في الولايات المتحدة تبين لك أن الأمر على غير ما صور لك أولئك العلمانيون في
بلدك ، وتبين لك أن هذه القضية ما زالت تثير عند أولئك القوم معارك حامية
الوطيس ، وما يزال كثير من الناس فيها يتجادلون ، وعنها يكتبون ويخطبون ،
وبسببها يتحزبون ، وعلى أساس منها يصوتون . بل إذا تُرجمت لك معاركهم
الكلامية في هذه المسألة ، وأُخفي عنك المكان الذي دارت فيه فلربما تخيلت أنها
تدور في بلد إسلامي . وإليك أمثلة على ذلك :
      التقيت منذ سنين في مؤتمر عالمي برجل أمريكي نصراني عرف أنني
مستمسك بديني ، فقال لي ناصحاً : لا تُخدعوا كما خُدعنا بالعلمانية ، كنا نظنها
نظاماً محايداً بين الأديان ؛ فإذا بها دين مُعادٍ للأديان . استغربت كما لا بد أن يكون
بعض القراء قد استغربوا في أن يأتي مثل هذا الكلام من رجل غربي . لكن هذا
الشعور بخطر العلمانية على النصرانية بدأ الآن يزداد ، حتى إن أستاذ فلسفة
كاثولوكي نشر كتاباً في عام 1996م نصح فيه إخوانه النصارى قائلاً : من أهم
مسائل هذا الكتاب أننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في تصنيفاتنا الحالية وصفوفنا
الحالية . إننا بحاجة إلى أن ندرك أولاً : أننا في حالة حرب ، وثانياً : أن الأطراف
قد تغيرت تغيراً جذرياً . كثيرون ممن كانوا أعداءنا ( المسلمون مثلاً ) هم الآن
أصدقاؤنا ، وبعض من كانوا أصدقاءنا الإنسيون ( humanists ) مثلاً هم الآن
أعداؤنا [1] .
      لكن الحملة النصرانية ضد العلمانية ازدادت ضراوة إبّان الانتخابات الأمريكية
التي صوَّر المحافظون فيها الحزب الديمقراطي بأنه حزب العلمانية والليبرالية ،
والحزب الجمهوري بأنه الحزب المناصر للدين والقيم الخلقية .
      فهذا أحدهم يكتب مقالاً بعنوان : الدين في مواجهة العلمانية [2] يبدؤه بقوله :
لقد أصبح الدين واحداً من أعظم العوامل التي تحدد لك كيف تصوِّت . إن الذين
يكثرون من الصلاة يميلون إلى أن يصوتوا للحزب الجمهوري ، والذين لا يفعلون
هذا يميلون للتصويت للحزب الديمقراطي . لقد أظهر آخر استطلاع أن 63% من
الذين يشهدون مناسبات دينية أكثر من مرتين في الأسبوع يقولون : إنهم سيصوتون
للجمهوريين ، بينما يقول 62% من الذين لا يشهدون مثل هذه المناسبات أو لا
يشهدونها إلا نادراً : إنهم سيصوتون للديمقراطيين . لقد صار غير المتدينين هؤلاء
قوة كبيرة في داخل الحزب الديمقراطي ؛ يُخشى أن يحولوه إلى حزب علماني .
      ثم يشكو من كون الإعلام يركز على سيطرة المحافظين الجدد والنصارى
المتعصبين من أمثال ( فولويل ) . لكنه أي الإعلام نادراً ما يقول شيئاً عن سيطرة
غير المتدينين على الحزب الديمقراطي . وينقل عمن وصفهما بـ ( عالِمَي اجتماع )
واهتمامهما بهذه القضية قولهما : إنه منذ عام 1992م درج من سبعين إلى ثمانين
بالمئة من العلمانيين الليبراليين على التصويت للمرشح الديمقراطي ، بينما درج ما
يقارب ثلثي المتدينين المحافظين على التصويت للمرشح الجمهوري . وينقل عن
امرأة محافظة قولها عن الطريقة التي يصوت بها الناخبون : « إنها في الحقيقة
فاصل على خط ديني بين من يعتقدون في حلول بشرية لمشكلاتنا وبين من يعتقدون
في حلول مبنية على الإيمان » . وهو يفسر موقف الإعلاميين ذاك بقوله : « ربما
لأن الصحفيين الذين ينتجون معظم الأخبار في أمريكا هم من المناصرين مناصرة
كاملة لأعداء المؤمنين » . وينقل عن بعض الإحصاءات أن ما يقرب من ثلث
هؤلاء الإعلاميين يعتقدون أن المسيحيين المنصرين خطر على الديمقراطية ، وأن
نصفهم يرى أن هؤلاء لهم قوة سياسية زائدة عن الحد . إن ما يقرب من نصف
هؤلاء الإعلاميين يصرحون بأنهم لا دين لهم ، وما يقرب من ثمانين بالمئة منهم لا
يكادون يذهبون إلى الكنيسة .
      من أبرز ما ظهر بهذا الصدد في الأشهر الأخيرة من انتخابات الرئاسة كتاب
لمؤلف مسيحي مشهور عنوانه : الاضطهاد ، كيف أن الليبراليين يشنون حرباً على
المسيحية [3] . ظل هذا الكتاب لمدة خمسة أسابيع على رأس قائمة جريدة
( النيويورك تايمز ) لأكثر الكتب شراء . كان مما قاله هذا المؤلف في مناسبة
دينية دعي لها :
      نحن في أتون حرب ثقافية يعنون بالثقافة هنا المعتقدات والقيم في هذا البلد .
أعتقد أن المسيحيين هم الهدف الأساس للعلمانيين الإنسيين ( secular
humanists ) النشطين في حرب الثقافة هذه . إن نظرتنا المسيحية العالمية كلها
محاصرة . لقد صارت القيم العلمانية هي المسيطرة في بلدنا ، وهذا أمر يجب أن
يحظى باهتمامنا .
      وذكر أن من وسائل العلمانيين في محاربة المسيحية إبعادها من المجال العام ،
وأنهم يعتمدون في هذا على تفسير غير صحيح للمادة الدستورية المتعلقة بما عرف
بفصل الدين عن الدولة . إنهم يفسرونها بالفصل الكامل بين المعتقدات الدينية
والحياة العامة ، لكنه وهو رجل قانون يقول : إن هذا لم يكن مقصود الآباء
المؤسسين ، هكذا يسمون واضعي دستورهم ؛ لقد كان مقصودهم في نظره هو
حماية الحرية الدينية بمنع الكونغرس والحكومة الفدرالية من إنشاء كنيسة قومية .
      إن في الولايات المتحدة ظاهرة يسمونها بالحرب الثقافية ( حرب الاعتقادات
والقيم ) ما تزال تزداد مع مرور الأيام استعاراً . لقد كُتبت فيها وفي أسبابها
ومخاطرها وطرق علاجها كتباً وبحوثاً كثيرة ، وما يزال المحافظون والليبراليون
يتهم بعضهم بعضاً بأنهم السبب في زيادة حدة هذه الحرب . ينقل صاحب هذا المقال
عن بعضهم قوله : إن الديمقراطيين هم السبب في هذا ؛ لأنهم هم الذين جروا
الحزب الديمقراطي إلى اليسار . إن كثيراً من العلمانيين والليبراليين ومن يمكن
تسميتهم بأعداء المتدينين هم الآن ديمقراطيون لدرجة أن بعضهم صار يسمي
الحزب الديمقراطي بالحزب الذي لا مكان فيه لله .
      ومع أن أوروبا هي الآن أقلّ بلاد الدنيا تديناً إلا أنه مما أثار حنق الكثيرين
من المتدينين فيها ، ولا سيما رجال الكنيسة الكاثولوكية أن الدستور الجديد للاتحاد
الأوروبي جاء علمانياً خالصاً لا ذكر فيه للنصرانية ، حتى باعتبارها من المكونات
التاريخية للثقافة الغربية .
      في أكتوبر من العام الماضي 2004م قال الكاردينال راتزنجر وهو كما يقال
أحد المرشحين لمنصب البابوية في إحدى المناظرات مبدياً قلقه من تزايد العلمانية
بالاتحاد الأوروبي : إن العلمانية تقوم على مذهب وضعي يؤدي إلى اعتناق النسبية ،
وإنه إذا صارت النسبية مطلقة فإنها ستكون متناقضة مع نفسها ، وتؤدي إلى
تدمير العمل البشري . وقال : إن من الأسباب التي سُوِّغ بها إغفال ذكر النصراينة
أن ذكرها كان سيؤدي إلى إثارة حفيظة المسلمين ، لكن الحقيقة كما يقول : هي أن
الذي يغضب الإسلام : هو الإساءة إلى الذات الإلهية ، والغطرسة العقلانية اللتان
تنتجان الأصولية الدينية [4] . إن العلمانية كما يقول هذا الكاردينال : عقيدة جزئية
لا يمكن أن تستجيب لكل التحديات البشرية . العقل بالعكس كما يقول ليس عدواً
للإيمان ، لكن المشكلة تنشأ عندما يكون هنالك احتقار للخالق وللمقدسات . وقال عن
الحرية : إنها تفهم اليوم فهماً فردياً مع الناس أنهم إنما خلقوا ليتعايشوا . إن هنالك
حرية مشتركة تضمن الحرية للجميع ، وتمنع جعل الحرية مطلقة [5] .
      لقد صارت العلمانية في نظر بعض المتدينين الغربيين أيديولوجية تحدُّ من
الحرية . وفي هذا الصدد يقول رئيس رابطة أطباء كاتالونيا المسيحيين بإسبانيا
لموقع org.Zenit النصراني : إنه إذا كنا قد تحدثنا في الماضي عن أيديولوجيات
هدامة : كالفاشية ، والماركسية ؛ فإننا نشاهد في العلمانية اليوم تقليصاً
لحرية التعبير ، ولممارسة التدين . ضرب بعض الأطباء الكاثوليك أمثلة على ذلك
بأنه يكاد يكون من المستحيل اليوم أن تحصل على لقب طبيب نساء
( gynecologist ) إذا لم تكن قد أجريت عملية إجهاض ، وأنهم في فرنسا
يمنعون من وضع لافتات تعلن عن مؤتمراتهم بحجة أن هذا مظهر ديني لافت
للنظر ! [6]
________________________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة .
(1) Peter Kreeft, Ecumenical Jihad : Ecumenism and the Culture War,
Ignatius Press, San Francisco, 1994, p 9 .
(2) Face to Face : Religion vs Secularism in Politics By Paul
Strand,Washington Sr Correspondent, CNB com .
(3) David Limbaugh, Persecution : How Liberals are Waging War Against
Christianiy, Parrenial, 2004 .
(4) عني أن الأصولية تأتي رد فعل لهذا التطرف العلماني .
(5) Rome, Oct 27, 2004 (Zenit org) .
(6) ( Madrid, Spain, 22 November, 2004 (Zenit org .

(( مجلة البيان ـ العدد [208] صــ 38    ذو الحجة 1425 - يناير 2005 ))


ليست هناك تعليقات: