السبت، 19 أكتوبر 2013

الفلسفة

الفلسفة   
 عبد الحليم محمود .. شيخ الأزهر الأسبق
إن كثيرا من شبابنا الذين درسوا في الغرب قد فتن بالفلسفة ، كما فتن بها كثير من الذين تتلمذوا على كتب الغرب المترجمة إلى العربية ووصل الأمر إلى حد افتتان جامعاتنا في أقسامها النظرية بالفلسفة فدرسها الأساتذة في إعجاب وأيدوها . واختلف الوضع الحاضر كثيرا عن نظرة أسلافنا إلى الفلسفة . ولقد عارض الفلسفة جميع المحدثين وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل كما عارضها كثير من كبار المفكرين وعلى رأسهم الإمام ابن تيمية . ولقد كان للإمام ابن تيمية فضل كبير وأثر بالغ في بيان فساد علم المنطق الذي كان سائدا في الأوساط الإسلامية منذ أن كان " الكندي " و " الفارابي " و " ابن سينا " ، ولقد كتب الإمام ابن تيمية فيه كتبا من أنفس ما يكون وعلى الخصوص كتاب " الرد على المنطقيين " . ولم يقتصر الإمام ابن تيمية على نقد المنطق وإنما عمل جهده على تسفيه كل فكرة منحرفة من أفكارهم ، ثم إنه من الذين بينوا في وضوح ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) . وكذلك فعل الإمام ابن حزم فقد نقد أيضا المنطق وتصدى لانحرافات الفلاسفة ، أما الكتاب الذي كان له أثر بالغ في انهيار الفكر الفلسفي فهو كتاب (تهافت الفلاسفة) وكلمة (تهافت) إنما تعني السقوط والانهيار والعنوان يعني إذن سقوط الفلاسفة وانهيارهم . وعلى سنة هؤلاء وعلى طريقهم سرت في هذا المقال مؤمنا بفكرة أسلافنا مقتنعا بها بعد دراسة فاحصة متأنية : فقد درست الفلسفة في أوربا ثم درستها فترة طويلة من الزمن وخرجت من كل ذلك مما خرج به أسلافنا- رضوان الله عليهم . وإذا كان أسلافنا قد كتبوا عن الانحراف الفلسفي بأسلوبهم وعلى طريقتهم فلعله من الخير أن يتحدث الذين يسيرون على نهجهم إلى شبابنا بأسلوب ميسر بحيث يقنعهم بمنطق العصر الحاضر حتى لا يشق عليهم فهمه . ومن أجل أن تستمر مسيرة أسلافنا في معارضة كل ما لا يلائم الجو الإسلامي كتبت هذا البحث وأرجو الله تعالى أن يهدي به وأن يهدي إليه وأن يكون عملا نافعا . حينما نتحدث هنا عن الفلسفة فإنما نعني : البحث العقلي البحث في ما وراء الطبيعة وفي الأخلاق . ونعني بما وراء الطبيعة : الإلهيات ، أو ما يسمى في عرف المتكلمين : العقائد . ونعني بالأخلاق : معناها الشامل الذي يتضمن التشريع الذي يحرم المنكر ويردع الذين يفعلونه ، وقد يخالفنا هذا الباحث أو ذاك في هذا الذي نعنيه بالفلسفة ، ولكننا أحببنا أن نتفق والقارئ على اصطلاح محدود ، وفي إطار هذا الاصطلاح يسير بنا البحث . يقول الأستاذ ( أندريه كرسن ) في كتابه : ( المشكلة الأخلاقية والفلسفية ) ما يلي : - " إن الفلسفة بمعناها الخاص قد دارت- ولا تزال تدور- حول طائفتين أساسيتين من المسائل :
(1) 
المسائل النظرية : ما الكائن ؟ ما أصله ؟ ما المصير الذي ينتظره هو وما تفرع منه ؟ أفي طوق عقل الإنسان أن يضع حلولا لهذه المسائل ، أم أن ذلك في حكم المستحيل ؟ كل هاتيك المسائل تعتبر مسائل ميتافيزيقية ( ما وراء الطبيعة) .
(2) 
المسائل العلمية : كيف يجب أن يكون مسلكنا في الحياة ؟ كيف نربي الناشئين تربية حسنة ؟ ماذا يجب لقيادة الدولة حتى تسير على النهج المستقيم ؟ كل هاتيك المسائل عليها تتوقف الأخلاق أو تستمد هي من الأخلاق . وهذا الذي ذكره الأستاذ أندريه كرسن هو رأينا الذي نسير على ضوئه في موضوعنا هذا . إن كل من يتصفح تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام يجد مجموعة من كبار المفكرين بحثوا ، في تعمق ، الموضوعات الفلسفية هذه ، وانتجوا فيها انتاجا يتفاوت كما وكيفا بحسب شخصياتهم . وبدأت هذه المجموعة بفيلسوف العرب : " أبو يعقوب الكندي ثم كان الفارابي وابن سينا وغيرهم . ونتساءل الآن : لماذا كان المحدثون وكثير غيرهم خصوما للفلاسفة ؟ وما هي حكمتهم في ذلك ؟ إن موقفهم من الوضوح بمكان ، وذلك أن موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين . إن الدين : إلهيات وأخلاق تستند إلى الوحي ، والوحي معصوم ، والفلسفة إلهيات وأخلاق تستند إلى العقل ، والعقل يخطئ ويصيب ، وهو حينما يخطئ لا يعلم يقينا أنه أخطأ ، وحينما يصيب لا يعلم يقينا أنه أصاب . ويقولون ، أو لسان حالهم يقول : " لقد ضمن الله لنا العصمة في الوحي ، ولم يضمن لنا العصمة في الآراء العقلية " . وحينما أخذ المتفلسفون يترجمون كتب اليونان وغيرهم قال معارضو الفلسفة : " إذا كان ما عند اليونان في العقائد حقا فعندنا ما هو أحق منه وهو عقائد الإسلام ، لأنها بالأسلوب الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ونحن إذا في غنى عن عقائدهم . وإذا كان ما عندهم باطلا ؛ فنحن في غنى عن الباطل " ، وكذلك كان موقفهم من الأخلاق بمعناها العام : إن كانت أخلاق اليونان فاضلة فعندنا ما هو أفضل منها ولم تتم مكارم الأخلاق إلا في العهد الإسلامي . وإن كانت أخلاق اليونان فاسدة فنحن نعوذ بالله من كل فساد " . وعارضوا الترجمة في الجانب الإلهي وعارضوها في الجانب الأخلاقي . . . ولكنهم لم يعارضوها ، وإنما شجعوا عليها في جانب العلوم المادية : مثل الطبيعة ، والكيمياء والفلك . . وعارضوا التفلسف في الإلهيات والأخلاق بكل ما أتوا من قوة . ولكن التيار الفلسفي استمر في المجتمع الإسلامي ، وإذا كان قد تهافت في المشرق بتأثير الإمام الغزالي فإنه قد ازدهر في المغرب على لسان ابن ماجه وابن طفيل وابن رشد . وكانت آمال وأماني فلاسفة الإسلام الوصول - عن طريق المحاولات العقلية المستمرة- إلى التوفيق بين الدين والفلسفة .
*
والفلسفة في الإسلام إذن تحاول جاهدة أن تعلن في نوع من الدعاية المزخرفة أنها تتفق مع الدين فيما أتى به الدين ، وأنها لا تختلف عنه في مبادئها . وعند كل فيلسوف في الإسلام وعند كل مؤرخ للفلسفة الإسلامية فقرات وفصول بعنوان التوفيق بين الدين والفلسفة سواء أكان هذا العنوان ظاهرا أم مستورا ، أنجحت الفلسفة في هذا أم أخفقت ؟ . ومن أجل الإجابة على هذا السؤال نحب أن نتحدث أولا عن الجو الذي نشأت فيه الفلسفة . إنها نشأت عند قدماء اليونان قبل الميلاد . وكانت اليونان فيما قبل الميلاد بقرون تدين بدين وثني : كانوا يؤمنون بمجموعة من الآلهة قابلة للزيادة عن طريق الزواج والتناسل . وهي آلهة تحب وتبغض وتتنازع وتتشاحن ، ويحاول بعضها أن يعتدي على الأعراض وعلى السلطان وهي في نزاع مستمر ، ثم هي تحابي من البشر من يقدم لها القرابين والأضاحي وتخذل من لم يفعل ذلك ، وكانت في مستواها الأخلاقي العام بعيدة عن الكمال والفضيلة وكان الإلف والتكرار والتعود يجعل هذا الوضع للآلهة وضعا عادية لا يثير نقدا ولا استنكارا . بيد أنه نشأ في القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في بلاد اليونان مجموعة كبيرة من المفكرين النابهين ، بل ومن العباقرة ، فكروا وتأملوا ونقدوا واستنكروا وانفصلوا عن الدين يعلنون ذلك في صخب أو في هدوء ، وفي كثير من الأحيان يسترون ذلك ويخفونه في نفوسهم ، ولكنهم على أي وضع كانوا ، ألفوا مذاهب آمنوا بها واعتقدوها : مذاهب بشرية لم تؤسس على وحي ولم ينزلها الله على لسان أنبيائه ورسله . ألفوا مذاهب تتصل بالله سبحانه وبالآخرة وبالسلوك الإنساني الذي يجب أن يلتزمه الإنسان . إنها مذاهب مؤسسة على العقل : عنه تصدر ، ومنه تنبع ، وعليه تقوم إن العقل ينشئها ويسير معها خطوة فخطوة حتى يصل بها - في تدرج - إلى غايتها ، إنها مذاهب عقلية ، إنها مذاهب بشرية . إنها في المستوىالبشري . وإذا كانت أسطورة الدين اليوناني هي التي دفعت هؤلاء المفكرين على ما أقدموا عليه فإن الأمر لم يكن كذلك فيما قبل . كان الوضع فيما قبل : التفرقة بين مجالين من مجالي المعرفة : 
1 - 
مجال المعرفة الحسية ، وهو مجال آلات المعرفة فيه الحواس ، وموضوعه المادة ، والعقل يجول فيه مستنبطا ومستنتجا ، فيؤلف فيه ويركب ويعيد تأليفه وتركيبه ، ويستخرج قوانينه وقواعده ، فتكون الحضارة ، ويكون العلم بمفهومه الغربي الحديث أو بمفهومه الكوني المادي : طبيعة وكيمياء وفلك .
2 - 
مجال المعرفة الروحية والأخلاقية ، وهو مجال ليست الحواس مصدره وليس العقل منشئه أو مبتدعه ، وإنما مرده إلى الوحي ينزله الله على ألسنة من يصطفيهم لحمل الرسالة من خلقه ، إنه من اختصاص الله تعالى يبينه على ألسنة رسله . وسار الأمر على هذه الكيفية إلى العهد اليوناني القديم : فخاض الإنسان في مجال الحس - وهو اختصاصه - وخاض في مجال الروح بعقله ، وليس للعقل في مجال الغيب إلا محاولة الفهم ؛ إذ الإنشاء والابتداع في هذا المجال ليس للإنسان ، وليس من اختصاصه . وجاءت المسيحية الصادقة الموحاة فردت الأمر إلى حالته الطبيعية : عالم الحس ، للإنسان أن يفكر فيه ويستنبط ، وعالم الروح يتفهمه الإنسان عن طريق الوحي .ولكن التيار الفلسفي اليوناني- وقد أصبح سنة مألوفة - غزا الجو المسيحي وأخذ مكانته المرموقة بين المفكرين الغربيين فنشأ فيهم الفلاسفة ونشأت في أجوائهم الفلسفة . وأخذ فلاسفة الغرب يحاولون التوفيق بين المسيحية والفلسفة وكان أبرزهم في هذا المجال الفيلسوف ( توما الإكويني ) . وإذا قرأت ( ديكارت ) تجده كأنه كان يمشي على الشوك وهو يتفلسف محاولا- ما استطاع إلى ذلك سبيلا- مداراة القساوسة وعلماء الدين والجو العام الفلسفي إذ يعلن ، في مجاملة بالغة ، أنه يؤيد الدين ولا ينحرف عنه وأنه يقدم إنتاجه ويعرضه على علماء الدين متقبلا ملاحظاتهم التي يوليها عنايته الفائقة ، كان هذا موقف ديكارت وغيره . .
*
وكان الإسلام- من قبل ديكارت ومن قبل الإكويني - : يهدي للتي هي أقوم ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ويقود الإنسانية نحو مرضاة الله تعالى ، ووضع الأمور في نصابها مبينا بأسلوب لا لبس فيه أن : العقيدة والأخلاق ونظام المجتمع والتشريع من أمر الله تعالى ، وقد شاء الله سبحانه أن يرسم للإنسانية طريقها المعصوم في كل ذلك فأرسل الرحمة المهداة ، خاتم النبيين - محمدا صلى الله عليه وسلم - : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا .
ولكن الفلسفة اليونانية دخلت على استحياء في عهد المنصور ، وقوي جناحها في عهد المأمون ، وأصبح في الأمة الإسلامية فلاسفة . والآن نتساءل : ما هي السمات العامة للفلسفة ؟ 
إنه لا يتأتى أن نحدد في صورة مقنعة موقف الإسلام من الفلسفة قبل تحديد سماتها العامة ، فما هي هذه السمات ؟ وأول سمة من هذه السمات ، وهي أهمها ، وتعتبر كالمنبع الذي عنه تفيض السمات الأخرى- هي أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال ، بين الصواب والخطأ . فإذا اختلف فيلسوفان في أمر من أمور الفلسفة فإنهما لا يجدان مقياسا عقليا بحتا يرجعان إليه للحسم بينهما في موضوع الخلاف . أما في العلم المادي فإن المقياس هو "التجربة" فإذا اختلف عالمان في أمر كوني رجعا إلى التجربة ، وهي تعلن في صراحة مشاهدة خطأ هذا وصواب ذاك . ما هو ، في عالم الفلسفة ، الذي يجري مجرى التجربة في مجال العلم؟ لا شيء . . . ما الذي يحسم الخلاف في عالم الفلسفة ؟ لا شيء . . ما هو المرجع العقلي البحت من أجل الاتفاق في عالم الفلسفة ؟ لا مرجع . ولقد شعر الفلاسفة بذلك : فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس ، وهما ( أرسطو ) في الماضي و ( ديكارت ) في العصور الحديثة . ولقد أخفق كل منهما إخفاقا تاما كاملا . ونبدأ الحديث عن أرسطو - ولا ننسى أننا في عالم الإلهيات : مجال الفلسفة الرئيسي - لقد فكر أرسطو وقدر ، ثم فكر وقدر ، وخرج على العالم بما يسمى ( المنطق الأرسطي ) أو ( المنطق الصوري) وأخذ هذا المنطق في عالم الفكر الفلسفي مجالا من الشهرة والعناية لا حد له . وأخذ في الجو الإسلامي شهرة ذائعة الصيت . وتبناه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من ( الكندي ) في المشرق إلى ( ابن رشد ) في المغرب . ولكن كثيرا من المسلمين ذوي الأصالة في الفكر الإسلامي أبانوا في وضوح أن المنطق الأرسطي منهار ، وأنه متهافت ، وأن الخلل في جوهره وأركانه وأنه خلل لا يصلح . وكان من هؤلاء ( ابن تيمية ) الذي كتب كثيرا في نقد المنطق ونقضه: لقد كتب في ذلك كتبا وكتب في ذلك فقرات منثورة هنا وهناك في خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة . وممن كتب في نقد المنطق ونقضه: ابن حزم . والمحدثون جميعا لا يجد المنطق عندهم ترحابا ولا قبولا .
وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافا ولا يفصل حقا عن باطل . ومما كتبناه في المنهج الحديث والمنهج الأرسطي ما يليإن المقاييس هيأ- الاستقراء ب- القياس أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية - فإنه:
1 - 
مبني كله على الحس: إنه استقراء محسات: إنه تتبع جزئيات ، لا تخرج عن نطاق الواقع ، أما المساتير فهو بريء منها كل البراءة ، لأنها لا تدخل في دائرة اختصاصه: فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة .
2 - 
ثم إن الاستقراء: تام ، وناقص . والتام - كما يعترف المناطقة - لا غناء فيه ولا فائدة . أما الناقص- وهو المهم في نظرهم فإنه - في رأيهم أيضا - ظني ، وهو - لذلك - عرضة للتغيير ، في كل آونة .
كل معدن يتمدد بالحرارة" تلك قضية من قضايا الاستقراء ، إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تنكشف بعد بأكملها . ومن الجائز أن يكتشف في الغد معدن لا يتمدد بالحرارة ، إنها إذن ، قضية مؤقتة ظنية ، تتبرأ من اليقين الفلسفي .
والعلم المادي كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله- وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة . لها قيمتها . حتى يتكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها " . وهكذا قضايا الاستقراء ، إنها:
1 - 
خاصة بالطبيعة ، ولا شأن لها بما وراءها .
2 - 
ظنية ، لا تعرف اليقين . أما القياس
1 - 
فإنه مبني على الاستقراء ، إذ هو منطو دائما على كلية ، كلية استقرائية ، وما دامت قضايا الاستقراء ظنية- كما رأينا - وميدانها المحسات ، فنتائج القياس ظنية كذلك ، وميدانها المحسات .
2 - 
إن المناطقة لا يشترطون في مقدمات القياس ، أن تكون مسلمة صادقة في نفسها ، وإنما يشترطون أن يسلمها المتجادلون فحسب ، وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية: منكرة كاذبة في نفسها ، وفي هذه الحالة يكون القياس صحيحا ونتيجته باطلة . وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس الأرسطي؟ ما قيمته إذا كان لا يعول فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟ ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟ إنك إذا قلت: الكثير من العلم يؤدي إلى الاستقلال الفردي ، وكل ما يؤدي إلى الاستقلال الفردي مضر بالمجتمع ، فالكثير من العلم مضر بالمجتمع ، كان هذا قياسا صحيحا في نظر المناطقة الأرسطيين . وإذا قلت : الكثير من العلم يؤدي إلى التماسك الاجتماعي ، وكل ما يؤدي إلى التماسك الاجتماعي مفيد للمجتمع ، فالكثير من العلم مفيد للمجتمع ، كان هذا أيضا قياسا صحيحا عند المناطقة ، ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان .
3 - 
ومع كل هذا فالقياس استدلال دوري فاسد ، ذلك أن العلم بالنتيجة في نحو قولنا: محمد إنسان ، وكل إنسان ناطق ، فمحمد ناطق" متوقف على العلم بالكبرى ، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة ، لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنساني ، إلا إذا تأكدت من ثبوت الناطقية لمحمد ، ولو كنت في شك من ذلك ، لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسان ، وإذن تكون النتيجة متوقفة على الكبرى وتكون الكبرى متوقفة على النتيجة ، وعلى ذلك يكون القياس: استدلالا دوريا فاسدا ، فلا يعول عليه .
4 - 
وأخيرا ، فالمفروض: أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة ، إنها استنتاج مجهول هو النتيجة - من معلوم ، هو المقدمات . ولكن النتيجة متضمنة في المقدمات ، إنها ليست مجهولة ، والقياس إذن لا يؤدي إلى معرفة جديدة ، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم ، إنه- إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من . . معلوم . تلك هي موازين العقل- وهي موازين لا غناء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيات . العقل إذن قاصر فيما يتعلق بالأخلاق . وهو قاصر على الخصوص فيما يتعلق بالإلهيات .
ومن هنا كان السبب في اقتصارها على الأخلاق والإلهيات . وإذا كانت قد تحدثت في التشريع فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق . أخفق إذن منطق أرسطو . واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل . واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطيين: الكبار منهم والمغمورين ، بل حدث الاختلاف بين تلاميذ أرسطو نفسه ، وهم أتباع مدرسة واحدة هي المدرسة الأرسطية . ومرت العصور ، وتوالت القرون ، وجاء ( ديكارت ) ، وبدأ ( ديكارت ) يتفلسف على استحياء وعلى حذر بالغ ، فما كان جو زعماء المسيحية في الغرب إذ ذاك يوحي بالاطمئنان أو السكينة ، لقد كان جوا رهيبا يأخذ على الظنة وينكل على الشبهة ، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة . وأخذ ( ديكارت ) يتحسس طريقه في حيطة بالغة: مداريا ، مجاملا ، مادحا ، متواضعا . . وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم . وأنه على أساس من هذا المنهج سيقود الإنسانية إلى الحق . . ورأى أن هذا المنهج صالح للكشف عن الحق في الكون وفي ما وراء الكون ، في الطبيعة وفي ما وراء الطبيعة . ولكن التجربة أظهرت خطأه في أثناء حياته . وأن الخلاف استمر حول آرائه في الإلهيات ، وآراء معاصريه ، وآراء من قبله ، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه ، وأخفق منهج ديكارت كما أخفق من قبل منهج أرسطو . . وبقيت الحقيقة التي لا شك فيها ، وهي أن الفلسفة لا مقياس لها . هذه هي السمة الأولى . . السمة الثانية : ما دامت الفلسفة لا مقياس لها فهي إذن ظنية ، إنها ظنية وإن عجنت بمنطق أرسطو الذي أخفق ، وهي ظنية وإن خبزت بمنهج ديكارت الذي لم ينفع في قليل ولا في كثير ، إنها ظنية لأنه لا يتأتى أن تفرق فيها- ولا مقياس- بين الحق والضلال ، وستستمر هكذا إلى الأبد . السمة الثالثة : مادام لا سبيل إلى اليقين في موضوعات الفلسفة فإن من البدهي أن: اختلاف الآراء فيها دائم" . وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفي عبر القرون ، إن الاختلاف والجدل دائم مستمر منذ أن نشأ الفكر الفلسفي ، إنهم يختلفون حتى في المدرسة الواحدة . وانظر مثلا إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته في احترام بالغ ، وفي تبجيل يشبه التقديس ، فإذا جئت إلى آرائهم في الإلهيات ، أو في الأخلاق ، فستجد الاختلاف والافتراق . . الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم ، والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض . . بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف مع نفسه بحسب تطور حياته ، أو اختلاف بيئته أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافته . وكل هذا واضح عبر العصور . ومن غرائب الأمور أن الفلاسفة يعلمون علما يقينا ، ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعا: إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق ، إنه يخطئهم جميعا ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائهم ، واكتفى بما أخبروه ، أو بما أنشأه أحدهم من قبل . ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائما إلى نقد ونقض فإنه لا يأبه بهذه المعرفة ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه ، فيأتي من بعده ويهدمه ويقيم مذهبا مآله السقوط وهكذا دواليك : السمة الرابعة : وما دام الاختلاف مستمرا فإن المسائل التي هي موضوع الفلسفة تستمر هي هي ، "إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور " . ما هي مسائل الفلسفة؟ إنها: معرفة الله سبحانه وصفاته ، وصلته بالعالم خلقا وتصريفا ، وصلته بالإنسان قربا وتوجيها . . والبعث وكيفيته . . . والخلق الكريم الذي يمثل الفضيلة والكمال . . . والخلق السيئ الذي يمثل الشر والفساد . . . والنبوة والصلة بالله عن طريق الوحي: إثباتا وإنكارا ، ثم: هل المعرفة ممكنة؟ وفي كل هذه الموضوعات الكبرى وغيرها مما يتصل بها اختلف الفلاسفة وما زالوا . واستمرت هذه المسائل على مدى سبعة وعشرين قرنا تقريبا مثار بحث وجدل إلى الآن . . لم يصل الفلاسفة في واحدة منها إلى اليقين ، ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق . السمة الخامسة : إن الاختلاف في مسائل الفلسفة ليس اختلافا في الإيجاب فحسب ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة ما عدة حلول كلها إيجابية . وليس اختلافا في السلب فحسب ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سليمة إن الخلاف عام في الإيجاب وفي السلب وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق في كل مسألة ، وإنه ليصل بك أحيانا إلى طريق مسدود . وإن الفكر الفلسفي ليصل بك أحيانا إلى إنكار السماء والأرض ، وما بين السماء والأرض ، ويقول لك: ليس في الوجود - يقينا- غيرك أنت وحدك . وإن السمة الأخيرة هي سمة تؤدي إليها ، - لا مناص- السمات السابقة . وإذا كانت السمات السابقة يسلم كل منها إلى الآخر ، فإنها جميعا تتكاتف لتؤدي إلى هذه السمة الأخيرة . السمة الأخيرة : هذه السمة الأخيرة هي أن: " الفلسفة لا رأي لها " . وقد تكون هذه السمة مفاجأة لبعض الناس ، كيف يتأتى أن تكون هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا صياحا ، منذ نشأت ، ولم تكف- منذ أن نشأت للآن - عن الصياح: لا رأي لها؟ والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضةأما أولا: فلأن " الفلسفة لا رأي لها" . نتيجة واضحة لكل ما قدمنا . وأما الثانية: فخذ أي مسألة من مسائل الفلسفة فستجد فيها الآراء التي تنكر ، والآراء التي تثبت ، إنك ترى الرفض والقبول في كل أمر . والرفض فلسفة ، والقبول فلسفة . وقد يكون الرأي توقفا على الرفض والقبول وهو فلسفة ، وقد يكون شكا في الرفض ، وشكا في القبول في آن واحد ، وهو أيضا فلسفة . والشك إما أن يكون شكا في قيمة الآراء التي تعرض: نفيا أو إثباتا . وإما أن يكون شكا في قيمة وسيلة المعرفة نفسها وهي الحواس والعقل . وكل ذلك فلسفة في كل مسألة . وإذا تساءلت- وأنت على علم بالجو الفلسفي: جو المتاهات والوهم- ما الرأي الفلسفي في هذه المسألة أو تلك فستجد كل ما قدمناه ماثلا أمامك يثبت لك بما لا مرية فيه أنه: ( لا رأي للفلسفة ) .
وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمرا في منهج الفكر الفلسفي فيه عظة وفيه عبرة: إن محاورة " فيدون " لأفلاطون لها أهميتها لأكثر من وجه . منها أنها:
1 - 
محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفس .
2 -
وهي محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين ، وإنما تتحد وتتفق ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم وهي أن :( النفس خالدة) .
3 - 
إن الذين يدور بينهم الحوار فلاسفة من الذين له وزنهم واعتبارهم ، وأحدهم يسمونه " أبا الفلسفة" ويسمونه " أبا الفلاسفة" .
4 - 
المتحاورون ليسوا من مدرسة واحدة وإنما هم من مدرستين مختلفتين هما: مدرسة سقراط ، ومدرسة فيثاغورس ، وهما وإن كانتا متقاربتين فإنه ما من شك في أن جو سقراط العقلي يختلف عن جو فيثاغورس الروحي . ولهذا الاختلاف فإن اتفاقهما على غاية واحدة :( إثبات خلود الروح) ومحاولتهما الاستدلال عليها له أهميته الخاصة .
5 - 
بيد أن الأمر الأساسي الهام الذي من أجله نتحدث في هذا الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن " الوحي" فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة الآمنة المتينة ، وأن العقل في مجال الإلهيات ، إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا وازنته بالوحي :(إن الوحي سفينة والعقل لوح خشب) . لقد كان الحوار يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين هما : سيميا " و" قابس " وهما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية . وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم في البرهنة على خلود النفس ويقيمون أدلة وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع ثم: " ويسكت سقراط ، ويسكت الجميع ، وبعد هنيهة يقول سيميا : إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة ، ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل ، فيجبإما الاستيثاق من الحق . وإما - إن امتنع ذلك- استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة . كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب ، ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن ، أعني إلى وحي إلهي"وبعد ذلك يعودون إلى البحث من جديد حتىيقتنع قابس ، ويعلن سيمياس أنه مقتنع أيضا ، إلا أن شعوره المزدوج بعظم المسألة وبالضعف البشري يضطره إلى بعض التحفظ بإزاء هذه الأدلة على وجاهتها . فيسلم له سقراط بحقه في هذا التحفظ ، ويزيد قائلابل إن المقدمات أنفسها مفتقرة إلى بحث أوكد . إن هناك بحر الإلهيات ، وهناك البحر المائي . وكما أن للبحر المائي آلة عبور هي السفينة ، فإن لبحر الإلهيات آلة عبور هي "الوحي" . فإذا استعمل الإنسان العقل في عبور بحر الإلهيات ، فإنه يكون كإنسان يستعمل لوحا من خشب في عبور البحر المائي . ولكن المضطر- حيث لا وحي- يستمسك بلوح الخشب- كما يقول سيمياس - " ما دام لا سبيل إلى مركب أمتن وآمن ، أعني إلى وحي إلهي" .
اليهود والفلسفة 
ولعل القارئ الكريم يسمح بأن أتحدث عن الجو الذي عشته في بواكير حياتي الفلسفية ، لقد كان ذلك لأول عهدي بجامعة باريس حينما ذهبت إلى فرنسا للدراسةوأحب أن أصف الجو الذي عشته- بتوفيق الله - أثناءه . دخلت الجامعة ، وبدأت الدراسة في علم الاجتماع وعلم النفس ، ومادة الأخلاق ، وتاريخ الأديان . وكانت هذه المواد يتزعم دراستها وتدريسها الأساتذة اليهود ، أو الذين تتلمذوا على الأساتذة اليهود . وكانت هذه المواد كلها تسير في تيار محدد ، هو: أنها ( علوم مجتمع) أي أنها لا تتقيد بوحي السماء ، ولا تتقيد بالدين على أنه وضع إلهي ، فهي تدرس موضوعاتها على أنها ظواهر اجتماعية ، وظواهر إنسانية . وبدأنا في الدراسة نسمع مختلف الآراء في نشأة الدين ، ومختلف الآراء في تفسير النبوة وينتهي الأمر برأي الأستاذ في الموضوع . وليس في هذه الآراء- على اختلافها وتعددها- ما يتجه إلى أن الدين وحي من السماء أو أن النبي- أي نبي - موصول الأسباب بالسماء ، وإذا انتظرنا من ذلك الأستاذ أن يصحح الوضع . فيدلي في النهاية برأيه مثبتا الألوهية والنبوة هادما للآراء الأخرى واصفا لها: بأنها ضلال . إذا انتظرنا ذلك منه فإننا نكون واهمين ، فإنه واحد من هؤلاء العشرات من الأساتذة في هذه المواد وما شابهها المنغمسين في تيار المادية . لقد فسرت الجامعات الأوروبية العلم على أنه القواعد التي تقوم على التجربة والملاحظة . والتزمت أن تفسر وأن تشرح علم الاجتماع وعلم النفس وجميع الظواهر في الآفاق ، وفي الأنفس ، على هذا الأساس ، والتزمت ذلك أيضا في تاريخ الأديان . هذه العلوم بالذات وفروعها تتكاتف لتقود الإنسان متعاونة متساندة إلى الإلحاد . إن للدين- فيما يزعمون- نشأة إنسانية اجتماعية ، - وإن للخلق - فيما يروون- نشأة إنسانية واجتماعية ، وقد تواضع الناس على سلوك معين سموه: " فضيلة " وعلى سلوك آخر سموه : " رذيلة " . ودراسة الدين والأخلاق إذن تتجه إلى النشأة والمظاهر وعوامل التطور وظواهر التطور . . وليس للوحي في الدراسة من نصيب اللهم إلا الوصف لظاهرة نشأت في المجتمع . وكل الظواهر والمظاهر في هذه الدراسات اعتبارية نسبية متبدلة لا تثبت على حال ، ولا تستقر على وضع ، لأنها في كل يوم تتبدل حالا بحال . . وهذه الأفكار تتكرر في هذه المواد: تسمعها في علم الاجتماع ، وتسمعها في علم النفس ، وتسمعها في دراسة مادة الأخلاق ، وتسمعها في دراسة تاريخ الأديان ، وتسمعها في دراسة العلوم المتفرعة من كل ذلك . والشاب الذي انتقل من الأقسام الثانوية إلى الجامعة يتأثر بأستاذه ، فإذا كان الأساتذة متكاتفين على هدم القيم الثابتة ، والمثل العليا التي يقررها الدين ، وتقررها الأخلاق ، إ ذا كان الأمر كذلك فإن الطالب الذي يعيش في أجواء تتعاون كلها على هدم عقائده ومثله وقيمه ينتهي به الأمر- في الأغلب الأعم من الحالات- بأن تنهار هذه القيم في شعوره . ومن هنا كانت الظاهرة التي تجدها في طلبة الجامعات في أوربا من الاستخفاف بكثير من العقائد وبكثير من القيم وينتهي الطالب بالإلحاد ، أو على أقل تقدير بالإيمان الكامن الذي لا فاعلية له ، ولا تأثير في سلوك الإنسان . وكنت - من غير شك- أضيق بكل ما يجري في هذه الدراسات ولكن الله -سبحانه وتعالى- ألهمني التفكير في قيمة وآراء الأساتذة أنفسهم في هذه المواد . وبدأت أفصل بين عالمين من المعرفة: عالم الماديات كالطب والطبيعة والكيمياء ، وهي أمور تحكمها التجربة ولا تتعارض مع الدين ، ولا اختلاف فيها . . وعالم التفكير المجرد في الدين والأخلاق والمجتمع . وأخذت أدرس في أناة هذا الجانب الأخير من الزاوية التاريخية ، فوجدت أنه منذ أن بدأ التفكير ، بدأ في اللحظة الأولى الاختلاف فيه ، وبدأ كل زعيم من زعمائه ينتقد الآخرين في عصره ، وكل مفكري عصره ينتقدون المفكرين في العصر السابق عليه . . وهكذا الأمر . وما من شك في أن هؤلاء الأساتذة الذين يدرسون لنا ينتقد بعضهم بعضا في آرائهم ، ويخطئ بعضهم بعضا ، كما ينتقدون السابقين عليهم ويخطئونهم ، وسيصنع من بعدهم صنيعهم فيوجهون إليهم النقد ويخطئونهم وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . لقد أخذ " دوركايم " اليهودي يعمل بمعاول هدامة في كل القيم والمفاهيم الدينية والأخلاقية ، وأخذ تلميذه الأكبر اليهودي " ليفي بروهل " ينهج منهجه ويسير على طريقه في علم الاجتماع وفي علم الأخلاق وكتاب " ليفي بروهل " : " الأخلاق وعلم العادات" - مثل واضح لهذا النوع من هدم القيم ، ومحاولة القضاء على كل المثل . فكرت إذن في اختلاف الآراء ، أو في هدم بعضها البعض في مواجهة كل ما يقوله الأساتذة وكنت أقول في نفسي- في مواجهة كل أستاذ- سيهدمك المعاصرون لك ، وسيهدمك الذين يأتون من بعدك . ولكني في مواجهة كل هذه الآراء الإلحادية- كنت أتشبث بيقين لا شك فيه . كنت أقول في نفسي: إذا كانت الأخلاق نسبية ، فهل سيأتي الزمن الذي نعتقد فيه: أن الصدق رذيلة أو أن الشهامة شر ، أو أن الشجاعة سوء ، أو أن العفة جريمة . . أو أن كذا ، أو كذا . . ثم أعود إلى نفسي فأقول: كلا . . .
وأتساءل من جديد في مجال العقائد: هل سيأتي اليوم الذي لا نقول فيه بوحدانية الله؟ أو لا نقول فيه بإرادته وعلمه؟
وأعود إلى نفسي وأقول: كلا . . .
كنت أحاول دائما أن أردد أن هؤلاء القوم يسيرون في طرق لا تنتهي إلى غاية .ما هدفهم من ذلك؟
وما كنت أجد الإجابة عن هذا السؤال آنئذ ، لكن عرفت فيما بعد أن هذا هو المنهج اليهودي الذي رسموه بعد تفكير طويل ، والتزموا به بكل الوسائل ، أو بكل الطرق ، وهو منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق . يستخدمون هذا المنهج في المجالات المختلفة لإفساد المجتمعات وتحللها أخلاقيا ودينيا ، ويضيفون إليه العمل على إثارة العمال على أصحاب رؤوس الأموال ، وعلى إيجاد الضغائن والفتنة بين مختلف فئات الشعوب ، والثمرة التي يعملون دائبين على الوصول إليها: أن يكون المجتمع شاكا مليئا بالفتن ، وذلك سبيلهم إلى السيطرة . إن اليهود يهدفون من وراء كل ذلك إلى السيطرة على العالم ، إنهم يحطمون القيم والمثل حتى لا يكون في المجتمعات قوة من عقائد ، أو قوة من خلق ، ومن أجل ذلك تكاتفوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى في الجامعات في علم الاجتماع وفي علم النفس ، وفي مادة الأخلاق ، وفي تاريخ الأديان ، ولم يكن من السهل علي أثناء هذه الدراسة الاستمساك الواثق بالقيم والمثل التي نشأت عليها ، لولا عون الله سبحانه ، وتوفيق منه ، ولولا لطف الله لصرت كواحد من هؤلاء الألوف الذين يدرسون في الجامعات الأوروبية ثم يخرجون منها ، وقد تحطمت في نفوسهم المثل الدينية الكريمة .
وانتهيت من هذه الدراسة ، ثم كانت المرحلة التالية هي مرحلة " الدكتوراه " . ، وبعد تجارب هنا وهناك في مجالات مختلفة من الموضوعات ، وبعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك- هداني الله- وله الحمد والمنة- إلى دراسة ( الحارث بن أسد المحاسبي ) ولم يكن ذلك مصادفة ، وإنما هي هداية وتوفيق من الله سبحانه وتعالى ، وهي عناية أعجز عن شكر الله سبحانه وتعالى عليها . وانتهيت من دراسة" الدكتوراه" وأنا أشعر شعورا واضحا بمنهج المسلم في الحياة ، وهو منهج :"الاتباع" . إن ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول كلمة موجزة عن هذا المنهج كأنها إعجاز من الإعجاز ، إنه يقول: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم " . وهي كلمة حق وصدق ثرية بالمعاني الطويلة العريضة ، يبرهن آخرها على أولها ، والنهي في وسطها يبرهن عليه أيضا آخرها: أي اتبعوا فقد كفيتم ، والكافي هو الله سبحانه وتعالى الذي أوحى الشرع والأصول والقواعد ، وطبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كل ذلك وبينه ، فكان تطبيقه مقياسا وبيانا ومرجعا يرجع إليه المختلفون .
ولا تبتدعوا فقد كفيتم": إن الذي يبتدع هو من لا كفاية له ، ولكن الله - سبحانه وتعالى- بعد أن أكمل الدين ، وأتم النعمة ، فليس هناك من مجال ، ولا من حاجة إلى الابتداع . لقد كفانا الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- كل ما أهمنا من أمر الدين . ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) .وبعد أن وقر هذا المنهج في شعوري واستيقنته نفسي أخذت أدعو إليه: كاتبا ومحاضرا ومدرسا ثم أخرجت فيه كتابا خاصا هو كتاب :" التوحيد الخالص ، أو الإسلام والعقل " . وما فرحت بظهور كتاب من كتبي مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب ، لأنه من خلاصة تجربتي في حياتي الفكرية . وهذا المنهج يفترض:
1 - 
مقاومة الغزو الفكري : والغزو الفكري له مجالات مختلفة: هناك الغزو الفكري في العقائد يتمثل في كل هذا التراث الضخم الذي نقل إلى اللغة العربية فيما يتعلق بما وراء الطبيعة ، وهو تراث مختلف متعارض ، بل ومتناقض ، وهو نتاج بشري بكل ما يتسم به النتاج البشري من خطأ وضلال .
2 - 
والغزو الفكري في نظام المجتمعالذي حاول أن يفرض علينا نظام المجتمعات الأوروبية . وإذا نحن سرنا في تياره ، فإننا نصبح ولا شخصية لنا ولا ذاتية ونصبح وقد فقدنا رسالتنا التي كلفنا بتبليغها للناس ونشرها وهي رسالة الإسلام التي من أجلها كانت الأمة الإسلامية ، وبدونها تصبح الأمة الإسلامية ولا مبرر لوجودها .
3 - 
والغزو الفكري في مجال التشريعوهذا الغزو الفكري في مجال التشريع توجد أسسه وأصوله بصورة مشروعة في مختلف الأقطار العربية ممثلة في كليات الحقوق التي تنفق عليها الدولة وتعتمد شهاداتها . وكليات الحقوق هذه دراستها غزو فكري ، واستعمار فكري ودراستها: أثر من آثار الاستعمار التي لم تزل بعد أن زال الاستعمار . وإذا كانت الأمم الواعية تحاول جاهدة أن تتخلص من وصمة الاستعمار بما فيها من شرور ورجس وآثام فإن الكثير من الدول العربية لم تحاول أن تتخلص من وصمة الاستعمار الصارخة الواضحة الممثلة في هذه الكليات . إن هذه الكليات تخصص عشرين ساعة في الأسبوع للقوانين الأوروبية أي للفكر الأوربي في التشريع ، وتفرض على الطالب أن يستذكره ويستوعبه ويحفظه ويتمثله ، وينجح فيه في الامتحان . أي أنها تفرض على الطالب أن يستعمر فكره الأوربيون في مجال التشريع ، وأن يلغي ذاتيته الإسلامية في هذا المجال ، وأن يكون تابعا للأوربيين في هذا المجال ، مقلدا لهم تجره عجلتهم ، مستسلما لغزوهم ، وبينما تخصص هذه الكليات عشرين ساعة أسبوعيا للفكر الأوربي في التشريع ، إذا بها تخصص ساعتين فقط للتشريع الإسلامي . ولو أن هذه الكليات في فرنسا أو في إنجلترا لما فعلت أكثر من ذلك . . ومنهج الاتباع: إذن يقتضينا أن ننظر في جد في أمر هذه الكليات من أجل أن نتمثل الوطنية والإسلامية والعروبة . وبعد: فإن منهج الاتباع هو الخلاصة الجوهرية لتجاربي الخاصة بالطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في حياته وإذا سار فيه المسلم فردا أو سار فيه المجتمع مجتمعا ، فإن الله - سبحانه وتعالى- يكتب له الهدوء والطمأنينة والسعادة ، لأنه يكون في جو رباني مليء برعاية الله سبحانه وتعالى وعنايته وإن منهج الاتباع ينفي من الجو الإسلامي الانحراف الفكري: ثم إنه ييسر لنا رعاية الله تعالى وتوفيقه وحمايته ونصره ويجب نشره في جميع الأجواء الإسلامية: إنه المنهج الإسلامي .
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .مجلة البحوث الإسلامية – عدد : محرم - جمادى الثانية لسنة 1400هـ .



ليست هناك تعليقات: