الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

ثقافة التحريم والمسرحية الرديئة


الكاتب: بدر بن مرعي الثوعي
مَن يُقنع هؤلاء أن أم كلثوم -رحمها الله- لم تكن سلفية يوم ألقت بالميكروفون أرضًا حين عُرض أمامها في الخمسينيات الميلادية

الحمد لله وبعد ..

في إحدى المحاضرات اقترح (دوجلاس نيوبولد) -الذي كان صديقًا للعقاد حينًا من الدهر - أن تُستفتح المؤتمرات الدولية واللقاءات العلمية بعرض فيلم ضاحك عله يوقظ العقول ويساعد على التفكير بشكل أفضل !
معاذ العقل أن أدعو الجامعة العربية لتبدأ جلستها التمثيلية -الهزلية في حقيقة الأمر- بعرض قد يكون أقلّ إضحاكًا ، فأنا أقدّر غَيرة أصحاب الصنعة الواحدة ، وإن كنت أقول بأن التمثيل السياسي يفرض علينا ضحكًا كالبكا - على تعبير أبي الطيب-

أخذت أتأمل الموضوع من زاوية أخرى (هل أرتكب ناقضًا من نواقض الثقافة المعاصرة حين أعترف أني أفتقر إلى الطقوس الخاصة بتفكير المثقفين المُحدَثين من سيگار كوبي وقهوة سوداء!) لا عليكم ، كُنت قد قلت أني قرأت اقتراح نيوبولد قراءة فلسفية  ، بتُ أردد في نفسي " هل بمقدورنا أن تكون الفكاهة مدخلًا للتنمية والإنتاج " ؟

دعك من التهريج الرخيص الذي لوث أعيننا وأذواقنا ، وهات يدك أحدّثك عن مسرحيّة تُعاد كلّ حين جذعة وكأن الناس لم يعد يضحكهم سواها ، هذه المسرحيّة الرديئة تبدأ بمشهد اختطاف حدث تأريخي وقطع سياقه الزمني من خلاف ثمّ إظهاره بقالب ضاحك وتنتهي بكربلائية حزينة عن السلفية وصدها عن سبيل المعرفة والتقدم والمرأة أيضًا ! (بالمناسبة  أعلن تأييدي زكي مبارك في مذهبه الذي قضى فيه أن الكثيف المتخثر إذا تظارف كان أثقل ما في الوجود)

السلفيّة وتحريم المخترعات الحديثة موضوع أهدى كثيرًا من العابسين ضحكات نادرة في حياتهم ، يُسدل الستار بقصة تحريم الراديو والتلفزيونات والكاميرات ويمرّ بتحريم السيارات ولا ينتهي عند حد .
دعني أصوغ المشكلة على شكل سؤال محدد " هل تحريم المخترعات الحديثة عقدة  أم عقيدة ؟"

بعيدًا عن موضة هذا الزمان في ارتداء زي القضاء ومحاكمة التاريخ وضربه بمطرقة اتّخذت مكانًا قصيًا أقلب فيه بطون الكتب بحثًا عن جواب علمي يُتّكأ عليه ، قطعت أيامًا من عمري وألقيتها بين يدي التأريخ والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وشيء من كتب السلفيين الذين عاصروا دخول المخترعات إلى بلادنا لأتصوّر المسألة بشكل جيّد .

هذا الضجيج الذي صاحب المسألة سببه الجهل بطبيعة الإنسان وبالتالي المجتمعات ، فتناشزُ آراء المجتمع تجاه المخترعات الحديثة ظاهرة عامة تظهر في كل مجتمع يمر بمرحلة تغيير [ انظر -غير مأمور - علي الوردي في الطبيعة البشرية ص 49]
وفي ذلك يقول الشيخ بكر أبو زيد " مواجهة كل جديد بالرفض ، والتحريم ، علة فاشية من قديم" [ تصحيح الدعاء ص 424]

عندما يبدأ مشهد ثقافة التحريم في أحد المجالس أستعين بالله وأجاهد نفسي على التبسم ؛ فتخرج باردة خالية من أي نكهة فما إن أطبق شفتيّ مؤذنًا بانتهاء هذه المسرحية الثقيلة حتى أشعر ببرودة في أسناني بسبب هذه الابتسامة الماراثونية .

سأحاول الدوران في فلك الدكتور زكي نجيب محمود حين قال " شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقمًا ، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل " [ جنة العبيط ص9] لذا سألجم قلمي عن الرتع في بلاد الفلسفة ، لن أتحدث عن نسبية التقدم ، ولا عن تشابك مفهوم القيم مع التطور ، ولا عن مساوئ الحضارة ، ولا عن مفهوم الحضارة والتنمية أصلًا ( على ذكر النسبية الحضارة أذكر كلمة للمستشار الألماني الأسبق شميدت " أدركت أنه لا يمكن أن يسري عليها بعض ما نعتبره معايير لنا في أوروبا فقد صنعت الحضارة الصينية عبر ألوف السنين قوانينها الذاتية"[مذكراته 68"]

مَن يُقنع هؤلاء أن أم كلثوم -رحمها الله- لم تكن سلفية يوم ألقت بالميكروفون أرضًا حين عُرض أمامها في الخمسينيات الميلادية [مجلة العربي العدد 468 نوفمبر 1997م] تزامنًا مع إدخال الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- الميكروفون لمسجده يوم الجمعة  4 / 2 /1374 هـ ، كذلك لا أظنّ أن الدّكتور غازي القصيبي -رحمه الله- كان إسلامويًا صحويًا  (إلى آخر الويّات الصحفية) حين قال " يمثل (الموبايل) في رأيي المتواضع بداية ثورة اجتماعية مرذولة..إي والله مرذولة" [استراحة الخميس ص140]
وبما أني بدأت في نفي تهمة أن يكون الأمر عقيدة فسأختم هذا الجانب بنقلين عن إمامين عاصرا إدخال المخترعات إلى بلادنا .
يقول الشيخ عبدالرحمن الدوسري -رحمه الله- "وجميع هذه الكشوف والمخترعات ليست هي التي توجه الحياة أو تحكمها وإنما يحكمها طريقة الاستفادة من ذلك حسب نور الله أو التخبط في الظلمة ، أفي سبيل الخير أو الشر ؟ وفي سبيل السلم أو الحرب؟ " [الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للشيخ الدوسري ص52]
ويقول الشيخ السعدي -رحمه الله- تحت قاعدة ( الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة)
"ويستدل بهذا الأصل العظيم والقاعدة الشرعية على أن علوم الكون التي تسمى العلوم العصرية وأعمالها ، وأنواع المخترعات النافعة للنّاس في أمور دينهم ودنياهم أنها داخلة فيما أمر الله ورسوله ، ومما يحبه الله ورسوله ، ومن نعم الله على العباد لما فيها من المنافع الضرورية والكمالية ، فالبرقيات بأنواعها ، والصناعات كلها ، وأجناس المخترعات الحديثة تنطبق هذه القاعدة عليها أتم الانطباق " [ القواعد والأصول الجامعة 20-21]

في الجانب الآخر أحسب أنه من السّهل إثبات أن ظاهرة منع الاختراعات الحديثة تسري في كل الحضارات بشكل طبيعي ، وإليك  هذه الأمثلة دون أي تعليق (على مذهب موسيقار العدم إيميل سيوران الذي يكره الحواشي)

- كتب أحد أعضاء البرلمان الإنجليزي في مارس (1825) الكتاب الآتي تعليقًا على أول اقتراح في البرلمان لإنشاء أول خط حديدي في إنجلترا :
( لقد اتضح لي في ختام الأمر أن صاحب الاقتراح ذاهب العقل لا مشاحة ... ويزعج -أي القطار- عباد الله بدخانه الكثيف بين مانشستر ولي?ربول ، والحمد لله فقد خُنق ذلك الشيطان الملعون في مهده ، إذ جاءت أصوات الأغلبية الساحقة ضده وانسحب أصحاب الاقتراح غير مأسوف عليهم )!
- قال أحد النواب الإنجليز ردًا على مقترح إدخال البخار في الأسطول " يا حضرة النائب المحترم نأبى أن نغلي غليًا ونحن على قيد الحياة !
- لما أُدخلت نظم التدفئة وأنابيب الماء وشيدت المنازل العالية ذات الأدوار العديدة في روما استشاط سفيكا الحكيم الروماني غيظًا وقال " إنها خطر داهم على الأخلاق وتهديم للفضيلة " وتحسرَ على الماضي !
- في القرن السابع عشر الميلادي دخل رجل مطعمًا حاملًا شوكة الأكل المعروفة ، سخروا منه وهم يقولون " كيف يجرؤ امرؤ أن يخجل من لمس الطعام بإصبعه"!
- لما اعتنق البلغاريون المسيحية ، عقد رجال الدين مجلسًا للبحث ، وتساءلوا " هل تتفق السراويل التي يلبسها أهالي بلغاريا مع الدين الجديد !
- طعن بعض أفراد الجمعية الملكية في النظارات ! وقالوا أنها مفسدة للأخلاق ، وأذاع قسيس مشهور بيانًا أعلن فيه أن النظارات تعد اعتداءً جريئًا على الأخلاق !
(بالمناسبة .. هناك مبحث لطيف عن تاريخ النظارات ومَن من المشاهير كان يستخدمها  في كتاب تاريخ القراءة لمانغويل ص 319- 329 )
- في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد أقبل الناس في أميريكا على شراء (البانيو) ، فهجاها رجال الأقلام والصحافة وقالوا أنها مدعاة للبدخ والإسراف ومنافية لمبادئ الديمقراطية ( يا لهذه الديمقراطية المسكينة ) وزاد الأطباء في الطنبور نغمة فادعو أنها خطر على الصحة العامة ونادوا بمقاطعتها !
- عند ظهور الكتب المطبوعة لأول مرة طعن العلماء الإيطاليون فيها وقالوا أن المطابع بدعة همجية ألمانية ونادى كهنتهم قائلين ( لنهدم كيان الطباعة أو تهدم هي كياننا!)
- لم تسلم حتى الخضروات والفواكة ( التي إلى الآن لا أُحسن التفريق بينهما) لم تسلم من موجة المنع ففي إنجلترا لم يشترِ أحد الملح فألقاه التجار في اليم ، وأما البطاطس فقد أُعدمت أول ظهورها بدعوى أنها ضارة بالمجتمع الانساني ، وأما الطماطم فديست بالأقدام لأن فيها إفسادًا لأخلاق الأمة !
- أما المظلة فقد استقبلت في لندن بكلّ مظاهر السخرية والاستهزاء وأخذ المارة يرشقون حاملها بالحجارة !
- اعترض جماعة من المثقفين على "جوستاف إيفيل" - الذي سمي البرج به لاحقًا - وقالوا :
" نحتج بكل قوانا ونعرب عن مزيد اشمئزاننا باسم الذوق الفرنسي والفن الفرنسي ، بل باسم تاريخ فرنسا كله المعرّض الآن للاحتقار (يا لطيف!) بسبب إقامة برج إي?ل الشنيع المنظر الذي لا فائدة منه على الإطلاق في قلب عاصمتنا الجميلة !
[انتهى النقل بطوله من كتاب "التاريخ القويم " للأستاذ محمد طاهر كردي-رحمه الله- ( 3 / 105 -113) والذي نقله بدوره من مقالة للأستاذ أمير بقطر- سأكون وهابيًا إقصائيًا هذه المرة ولن أترحم على هذا النصراني - بالعدد الثاني من مجلة الهلال عام 1933]
وهذا الرفض مما تمدح به الأمم لو كان قومي يعلمون ، يقول الأستاذ محمد كرد علي -رحمه الله- في سياق مدح الحضارة الإنجليزية :
" وقد اشتهرت إنكلترا بأنها بلد التقليد المستعصية حتى على اللازم من التجديد .." إلى أن قال " ولذا رأينا الشعب الإنكليزي قد جالد لأول مرة ريثما أدخلت عليه أساليب الارتقاء حتى المادي منه فلما تسرّب إليه صار في لحمه وعظمه " وقال " وهكذا شأن الأمة العظيمة تتشدد في تقاليدها وتستنكف في الغالب عن قبول كلّ جديد إلا إذا ثبت لها ما ينقض ثبوت الشمس والقمر [غرائب الغرب ( 2/ 82]"
وهو ما وافقه عليه الأستاذ محمد جلال كشك-رحمه الله- حين قال " وهذا الرفض للمخترعات قبل فهم سرها يدل على عقلية أكثر علمية ، وأكثر احترامًا للنفس ، من المتخلف الذي يتعاطى هذه المخترعات دون أي انفعال " [السعوديون والحل الإسلامي ص 588، وهذا الكتابة غاية في النفاسة في رسم صورة من تاريخ هذه البلاد]

وأنا أختم بأنني أفسّر الظاهرة علميًا ولا أدعو لأن تتوقف عجلة التنمية  ، فمنها ما تطيب به الحياة (على ذكر الطيب قرأت في كتاب الرائحة .. أبجدية الإغواء الغامضة لبيت فرون أن أفلاطون شنّ حملة على الطيب والعطور باعتبارها أدوات للتخنث ! ص14) وأنا أكتب من جهاز مخترع حديث ومع هذا لم أرتّل مزامير الندم السبعة كما فعل جاليليو ولم أعتذر كما صنع كوبرنيكوس وناشره ، كلّ ما في الأمر أني أردت العدل في الحكم التاريخي فالله تعالى يقول " وإذا قلتم فاعدلوا" ويقول جل من قائل " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "فأنا أؤمن أن عربة الحضارة لا تُساق بسوط السخرية ، ارتقيت جبل التاريخ ورأيت صنيع الأمم وصرخت بكم قائلًا " يا قوم .. دعوا هذه التندر , دونكم مشكلاتنا الحقيقية من شرك واستبداد وضعف إيمان وأخلاق .. ثم إن الطريق من هنا 

ليست هناك تعليقات: