الاثنين، 23 أبريل 2012

عفواً ممنوع دخول السلفية والسلفيين


أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
   
  هذا عنوان لافتة افتراضية تم غرسها على أعتاب القرن الجديد أو الألفية
الثالثة أو الشرق الأوسط الجديد ، أو غير ذلك من المسميات التي تختلف في
تفاصيلها ، وتتفق على شيء واحد وهو : لا مكان للإسلام الأصولي السلفي في
العالم الجديد أياً كان اسمه .
      ومحاكاةً للنمط الأمريكي في طرح الأسئلة ذات الخيارات المتعددة ، قام أحد
مراكز البحوث بإعداد دراسة مستقبلية مفصلة تجيب عن سؤال : كيف سيكون شكل
العالم بعد 15 عاماً من الآن ؛ وتحديداً عام 2020م ؟ وشارك في إعداد خيارات
الإجابة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين ، وتبنى الدراسة المجلس القومي
الأمريكي للاستخبارات ( الشرق الأوسط ، 2/11/2005م ) وكان هناك أربعة
خيارات أطلقوا عليها اسم « سيناريوهات المستقبل » :
      ( 1 ) إمبراطورية إسلامية من المغرب إلى إندونيسيا .
      ( 2 ) عالم من الفوضى والإرهاب .
      ( 3 ) عالم تسوده العولمة بدون سيطرة أمريكية .
      ( 4 ) عالم تسوده القيم الأمريكية وتحكمه واشنطن .
      وقد تلقف الرئيس الأمريكي على الفور هذا المضمون وحذر في إحدى خطبه
الأسبوعية من الإمبراطورية الإسلامية القادمة .
      هذا الخوف من الإسلام بشقيه الحقيقي والمفتعل يحتاج إلى سؤال آخر على
النمط الأمريكي أيضاً ، وهو : تتعدد المناهج والتيارات المطالبة بعودة الإسلام ؛
فأيها تخشى أمريكا تحديداً ؟ :
      ( 1 ) التيار الإسلامي السياسي .
      ( 2 ) التيارات السلفية .
      ( 3 ) الطرق الصوفية .
      ( 4 ) المؤسسات الدينية الرسمية .
      وقد قدمت مراكز الأبحاث الأمريكية إجابة واضحة عن هذا التساؤل ،
باختيارها للتيارات السلفية مصدراً عاماً للقلق والتوتر . هنا نأتي إلى السؤال الثالث
وهو : ما هي أفضل الطرق للتعامل مع الخطر الذي تمثله السلفية ؟ :
      ( 1 ) استبدالها بمناهج وأفكار أخرى .
      ( 2 ) الإقصاء .
      ( 3 ) الاحتواء ؟
      ونحاول في هذه الورقات أن نقدم الخيار الأكثر ترجيحاً للإجابة عن السؤال
الأخير .
* استبدال السلفية :
      يقوم مفهوم الاستبدال على قيام جهات الضغط الغربية بطرق غير مباشرة
غالباً بتحفيز وتشجيع تيارات ومناهج أخرى لكي تقوم كبديل للمنهج السلفي في
الدول الإسلامية . وترتكز فكرة الاستبدال على وجود رغبة عامة وعارمة لدى
الجماهير في التدين . وانبعاث هذه الفكرة التبديل بين أنماط التدين في العقلية
الغربية وتناميها لدرجة القناعة يدل على تطور خطير في نظرتهم وتفسيرهم للسلوك
الديني للمسلمين ، وقد كانت الفكرة القديمة تنحصر في تجفيف منابع التدين
واستبدال الدين بأفكار علمانية براقة ، ولكن مع فشل هذه الفكرة ، بدأ الكثيرون
ينتقلون إلى مرحلة تالية ، وهي : فلندع المسلمين يتدينون كما يريدون ، لكن فلنقدم
لهم نحن ( التوليفة ) المناسبة للتدين .
      وتكمن خطورة السلفيين بالنسبة لخصومهم في أنهم يقودون الناس في قطار
سريع يصلهم مباشرة بين الواقع ومصادر التشريع ، أما غيرهم من التيارات
فيأخذون الناس في جولة سياحية تطول وتقصر بحسب المنهج ، وأحياناً تتحول
الرحلة بمجردها إلى هدف منشود .
      والعناصر الرئيسة المتضمنة لـ ( توليفة ) التدين الأمريكية :
      1 - رموز ودعاة مستقلون يقدمون نمطاً متطرفاً في تسامحه واعتداله ليبرز
النمط السلفي للتدين على أنه متطرف في فهمه وتمسكه بتعاليم الإسلام .
      2 - غطاء وحاجز سياسي توفره التيارات السياسية التي تنظر للتيارات
السلفية على أنها معوق لتقدمها السياسي ، كما أنها على استعداد لتقديم تنازلات دينية
في سبيل تحقيق مكاسب سياسية .
      3 - الربط الوثيق بين السلفية العلمية والدعوية وبين السلفية الجهادية ،
بحيث يصبح الجميع منهجاً واحداً متعدد المراحل أو المستويات .
      4 - إفساح المجال في عدد من البلدان الإسلامية لدعاة التصوف وخاصة
الذين طوروا خطابهم في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر ، والذي يقفزون فيه على كل ما
يثير الغرب في الإسلام ، ويقدمون صياغة جديدة قابلة للتسويق في الثقافة الغربية .
      ونقدم تفصيلاً أكثر لعنصري : دعاة الاعتدال ، والمتصوفة الجدد .
      العنصر الأول : دعاة الاعتدال :
      وقد بدأ نجمهم في البزوغ في السنوات الأخيرة وخاصة بعد 11 سبتمبر ،
وأهم صفتين تمثلان جواز المرور لهذه الفئة من الدعاة أنهم يتجاوزون نقاط
الاختلاف الساخنة مع الغرب ، ويقفزون على قضايا الولاء والبراء والقضايا العقدية
إجمالاً ، كما أنهم لا يرتبطون غالباً بأي انتماءات لجماعات إسلامية عليها علامات
استفهام غربية .
      وفي الحقيقة فإن هذه الفئة من الدعاة رغم إيجابيات تحققت على أيديهم بإذن
الله ، فإنهم يلعبون دوراً خطيراً في وقف التوجه الشعبي نحو الإسلام الحقيقي
بشموليته لجميع جوانب الحياة ؛ فهم يمثلون مكابح للتدين تقف بالناس عند مرحلة
معينة متوسطة بين الانحراف عن الدين وبين الإسلام كما يقدمه المنهج السلفي ،
ليقولوا لهم : نهنئكم بسلامة الوصول ؛ لقد أصبحتم متدينين .
      ولا يُخفي عدد من المفكرين والكتاب الغربيين أن هذا بالفعل هو مفهومهم عن
أي إصلاح أو نهضة إسلامية . يقول ( روبرت سبنسر ) مدير موقع مراقبة الجهاد
( watch jihad ) : يجب على النهضة الإسلامية أو الإصلاح أيهما شئت أن
تكون إلغاء واضحاً للحرفية القرآنية ، وإن لم تكن كذلك ؛ فكيف ستُمنَع هذه الحرفية
من الظهور مجدداً ؟ » .
      ولكن المؤسف أن التنازلات التي يقدمها دعاة الاعتدال قد لا تلقى ترحيباً لدى
الطامعين في المزيد ، وفي مقدمة هؤلاء الحاقد الأكبر على الإسلام ( دانيال بايبس )
صاحب الحظوة في البيت الأبيض الذي كتب مقالة بعنوان « كيف نحدد المسلمين
المعتدلين ؟ » نشرتها صحيفة ( نيويورك صن ) ، ويقول فيها : « هناك المزيد من
المعتدلين المزيفين الذين يصعب الكشف عن تطرفهم ، حتى وإن كان المراقب هو
مثلي ويكرس الكثير من الوقت والانتباه إلى هذه القضية » . ونحن لم نسمع من
قبل عن معتدلين يلبسون « طاقية » الإخفاء ، وخاصة أن المسلمين السنة لا
يعتمدون « التقية » في دينهم . ويقدم « بايبس » توضيحاً أكثر لمراده :
« الإسلامويون يعني المتطرفين يعون الحاجة إلى المسلمين المعتدلين وهم
يتعلمون كيف يتظاهرون بالاعتدال ، ولا شك أن هذا التمويه سيتحسن مع
الوقت » .
      العنصر الثاني : المتصوفة الجدد :
      ونحتاج إلى بعض التفصيل لهذا العنصر نظراً لأهميته وخطورته على الدين
الحق ، وهناك دلائل كثيرة تشير إلى أن السياسة الأمريكية باتت تنظر إلى الصوفية
« المعدلة » على أنها يمكن أن تمثل بديلاً مناسباً للتدين لدى عامة المسلمين ،
ونذكر فيما يلي بعض هذه الدلائل ، ثم نقدم نموذجين للمتصوفة الجدد :
      - في عام 2003م عقد مركز نيكسون للدراسات في واشنطن مؤتمراً عنوانه
« فهم الصوفية والدور الذي ستلعبه في السياسة الأمريكية » وكان من أبرز
الحضور الدكتور برنارد لويس وهو من أبرز الناقمين على الإسلام ، والدكتور
كوركوت أوزال شقيق الرئيس التركي الأسبق تورجوت أوزال ، و محمد هشام
قباني رئيس المجلس الإسلامي الأمريكي .
      - ووزع في المؤتمر دراسة بيانية توضح الجماعات والمذاهب الإسلامية
والمنتمين إليها ، وجاء فيها أن مجموعة السلفية هم الذين ينتمون إلى مدرسة ابن
تيمية ، وأطلقوا عليها « مجموعة الإسلام السياسي » ووضعوها داخل دائرة حمراء ،
واعتبروا من بينها : الوهابية الجماعات الفلسطينية الإسلامية الجماعات الإسلامية
السلفية - حزب التحرير - جماعة التبليغ .
      - يعتبر المجلس الإسلامي الأمريكي الصوفي الذي أسسه هشام قباني مصدراً
مهماً للمعلومات لدى الإدارة الأمريكية عن الإسلام والمسلمين ، وكان بول وولفويتز
مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق يعقد لقاءات دورية مع أعضاء المجلس
للتشاور معهم حول قضايا الإرهاب « الإسلامي » .
      - بعد فوز حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوجان الصوفي النقشبندي ، بدأ
مسؤولون في السفارة الأمريكية في تركيا بزيارة الجماعات الإسلامية التركية
ودراستها عن قرب ، والاطلاع على حجم شعبيتها وتأثيرها ، والتباحث مع قادتها
حول رغبة الأمريكيين في استخدامهم في نشر الإسلام المعتدل خارج تركيا ضمن
إطار الشرق الأوسط الكبير ، وفي المقابل كانت وعود بدعم مالي وسياسي ومنح
دراسية لأتباعهم في أمريكا . ( راجع موقع الصوفية على شبكة الإنترنت ) .
      ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى نموذجين يمثلان التيار الصوفي الجديد :
أولهما : الداعية علي الجفري ، والثاني : الدكتور محمد هشام قباني المقيم في
الولايات المتحدة .
      فالأول - الجفري - برز بقوة عن طريق مواعظه للنخبة الفنية والطبقة الغنية
في مصر ، ثم عبر الفضائيات ؛ وذلك بعد 11 سبتمبر ، وبدا أن الطريق أمامه
مفروش بالورود ؛ ففي خلال وقت قصير زار الولايات المتحدة وطاف في تسع
ولايات ، وألقى دروساً ومحاضرات بعضها في جامعات أمريكية ، في الوقت الذي
مُنع فيه حفيد الشيخ حسن البنا الدكتور طارق رمضان من دخول الولايات المتحدة ،
وتكرر ذلك مع الداعية البريطاني الجنسية والمولد يوسف إسلام ، كما زار الجفري
بريطانيا و أيرلندا و هولندا و بلجيكا ، بالإضافة إلى إندونيسيا و سريلانكا و كينيا و
تنزانيا ولم يفوت جزر القمر .. ( راجع مقالة أنور قاسم الخضري رئيس تحرير
صحيفة الرشد اليمنية ، موقع صيد الفوائد ) .
      والنموذج الثاني « هشام قباني » من أصل لبناني الذي أسس ما يسمى
المجلس الإسلامي الأعلى ، وهو منظمة صوفية في الولايات المتحدة ، ويحظى
الرجل بدعم كبير من الإدارة الأمريكية ، ودُعي إلى البيت الأبيض والخارجية ،
وألقى محاضرات على مسؤولين في واشنطن إحداها كانت بعنوان « التطرف
الإسلامي وخطورته على الأمن القومي الأمريكي » .
      ويبدي الدكتور هشام قباني عداء خاصاً للسلفية ممثلة في الدعوة الوهابية ،
ويُعتبر أحد مصادر المعلومات والتحريض ضدها في أمريكا ، وهو يدعي أن
80% من المساجد في أمريكا يسيطر عليها المتطرفون الوهابيون ، ويتجول قباني
في أنحاء العالم بحرية ، وهو يقول : « في رأيي المتواضع أن الصوت المهيمن
والمسيطر هو صوت الوهابية ؛ فهم يسيطرون على النشرات والكتب والأموال ،
فكل شيء في أيديهم » وهو يعرض الصوفية كبديل واضح للوهابية فيقول مخاطباً
من يعنيه الأمر : « علِّموا الطلاب الصوفية ، يجب أن يتعلم الطلاب كيف
يصبحون محبين للسلام ، وكيف يصبحون جزءاً من المجتمع الكبير ؛ فالوهابية
تحرض الطلاب على ألا يكونوا جزءاً من المجتمع الكافر ، ولكن ينبغي الاندماج
والتكامل مع النظام الذي يعيش فيه المرء ، أما الدين فمسألة بين المرء وبين الرب ،
هكذا يقول الإسلام » ( نقلاً عن صحيفة صندى استريت تايمز ، موقع إسلام
ديلي ) .
      وقد زار قباني ضمن الدول الإسلامية أوزبكستان ثلاث مرات ، وكان في كل
مرة يكيل المديح والثناء على رئيسها كريموف الطاغية الذي ألقى بعشرات الآلاف
من الإسلاميين في السجون ، وأغلق المدارس الدينية وحارب الحجاب وأغلق عدداً
كبيراً من المساجد ، وفي زيارته الأخيرة اصطحب وفداً تعداده 120 شخصاً طافوا
أنحاء أوزبكستان يشوهون الإسلام ويلقون في أذهان الناس أوهام الصوفية
المعتدلة !!
      والحال هكذا ؛ فليس غريباً أن تنشر مجلة يو إس نيوز الأمريكية أن واشنطن
تسعى لتشجيع ودعم الحركات الصوفية كإحدى وسائل التصدي للجماعات
الإسلامية ، ويشمل ذلك تشجيع إعادة بناء الأضرحة وترجمة المخطوطات الصوفية
القديمة ، ويعتقد استراتيجيون أمريكيون أن أتباع الصوفية ربما كانوا من بين أفضل
الأسلحة الدولية ضد الإسلاميين « المتشددين » !
      وقد استرعى انتباه متخصصين أمريكيين الصراع بين الحركات الإسلامية
السلفية وبين الطرق الصوفية ، ولذلك قررت الإدارة دعم الصوفية ولكن بصورة
غير مباشرة ، وذكرت المجلة الأمريكية أنه في إحدى الدول العربية في شمال
إفريقيا دعا قادتها في هدوء زعماء الصوفية المحليين ، وقدموا لهم ملايين
الدولارات كمعونة لاستخدامها كحصن ضد الأصولية المتشددة .
      كما أوصت لجنة في الكونجرس الأمريكي مختصة بالحريات الدينية بتشجيع
الحركات الصوفية في العالم الإسلامي ، وفي كتاب أصدرته الباحثة شيريل بينارد
وهي زوجة سفير أمريكا في العراق زلماي خليل زاده بعنوان ( العالم الإسلامي بعد
11/9 ) تناولت الحركات والمذاهب الدينية القادرة على التغيير في العالم
الإسلامي ، وكتبت عند كلامها عن الصوفية أنهم : « يشكلون غالبية المسلمين اليوم
وهم محافظون على معتقداتهم الإسلامية وتقاليدهم المحلية ، غير متشددين ،
يعظمون قبور القديسين ويؤدون عندها الصلوات ، ومجموعة الاعتقادات هذه أزالت
تماما التعصب والشدة الوهابية وأصبح الكثير من التقليديين يشابهون الصوفية في
السمات والاعتقادات ، ولا يرون تضارباً بين معتقداتهم الدينية وولائهم لدولهم
العلمانية وقوانينها » وقالت أيضا : « الوهابية والسلفية هم أشد أعداء الصوفية
والتقليدية في العالم الإسلامي ، ونتيجة لهذا العداء فالصوفية والتقليدية هم حلفاء
طبيعيون للغرب في حربهم ضد الراديكالية » . ( راجع صحيفة دنيا الوطن على
الإنترنت 17/11/2005م ) .
      ولكن في المجمل : فإن مصطلح « الاستبدال » مع كل ما سبق لا يقدم
وصفاً دقيقاً للحملة الغربية على التيارات السلفية ؛ فالأمر تجاوز مرحلة الاستبدال
بكثير ، كما أن بعض الدول الإسلامية التي توفرت لديها بدائل السلفية لا تزال من
وجهة نظر غربية ضمن دائرة الخطر السلفي ، ويمكن تفسير ذلك من خلال النقاط
التالية :
      أولاً : السلفيون لا ينبع خطرهم من الكثرة العددية كما هو الحال بالنسبة
للتيارات الأخرى ، بل ينبع خطرهم في الأساس من الفكرة التي يحملونها وقابليتها
للانتشار بسهولة ، ونحن نضيف إلى ذلك تفسيراً آخر إسلامياً ، وهو أن نمط
الالتزام السلفي هو النمط الأكثر توافقاً مع الفطرة ، بمعنى أنه لو تُرك الناس لحالهم
لرجعوا إلى الإسلام وطبقوا أحكامه كما هي مبينة في الكتاب والسنة ، ودون
مؤثرات خارجية سوف يقودهم ذلك بيسر إلى المنهج السلفي .
      ثانياً : يمكن التمثيل على تباين التيار السلفي مع التيارات الأخرى من حيث
ارتباط الكثرة العددية بقوة التأثير ، بالوضع في مصر ؛ فمن حيث العدد والانتشار ،
تأتي الطرق الصوفية في المقدمة حيث يُعد أنصارها بالملايين ، ثم تأتي جماعة
الإخوان المسلمين ، ثم التيارات السلفية آخراً ، ورغم ذلك فإن المفاهيم السلفية
منتشرة في مصر ولها تأثيرها ، ويستدل على ذلك بحجم ونوعية الكتاب الإسلامي
المتداول والمرتبط بالسلفية مقارنة بمثيله لدى التيارات الأخرى .
      ثالثاً : مشكلة السلفية أو الوهابية مع العالم الغربي أنهما يطالبان بالعودة إلى
منابع الإسلام الصافية الكتاب والسنة وتحكيمهما في كل صغيرة وكبيرة بصورة
مباشرة ، ويمتلك الغربيون قناعة قديمة تمتد لمئات السنين بأن تلك المنابع الصافية
هي مصدر بلائهم ، وأن أي جماعة أو تيار يبدو حريصاً على التمسك بها لا مفر
من مواجهته ، وهذه هي جريرة السلفية أو الوهابية . « إن المتعصبين الوهابيين
يقولون إنهم سيعيدون الإسلام النقي ، وأقول : إن هذا يعني محو مئات السنين من
الشعر والأدب والعمارة والفن والموسيقى » [الكاتب الأمريكي المتخصص في
الشؤون الإسلامية ديفيد شوارتز ، صحيفة ويكلي ستاندارد] ، ويقول روبرت
سبنسر : « كون الإصلاح الوهابي كان عنيفاً وقاسياً فهو انعكاس للنصوص
الأساسية لدينه الذي نذر له نفسه وأتباعه في تعصب لا يرحم » [موقع إسلام ديلي] .
* احتواء السلفية :
      هناك فكرة دقيقة تحتاج إلى تأمل ، وهي : وجود فرق بين السلفية والسلفيين ،
وهذا يعني أنه عندما نتحدث عن احتواء السلفية كفكر فهذا يختلف عن احتواء
السلفيين كحاملين لهذا الفكر ، وإذا كان احتواء الفكر أهم وأخطر من احتواء حامليه
- من وجهة نظر الخصوم - إلا أنه لن يمكن احتواء الفكر إلا بعد احتواء حامليه ،
أو على الأقل احتواء عدد مؤثر منهم ، وهذا ما يحدث الآن في عدة بلدان إسلامية ،
من جهود حثيثة تبذل لاحتواء أكبر عدد ممكن من رموز السلفيين وأتباعهم ، وبات
من الأمور المعتادة أن نجد جماعات ورموزاً سلفية لهم مذهبان : قديم وجديد . ومن
الأمور التي ينبغي الإشارة إليها هنا ، لارتباطها بهذه الجزئية ، أنه عند تأمُّل تاريخ
الجماعات الإسلامية نجد هناك منعطفين خطيرين تواجههما الجماعات في بداية
نشأتها ثم عند تراجعها - كما هو الحال الآن - .
      في المنعطف الأول : عادةً ما تكون الانشقاقات أو المراجعات في اتجاه مزيد
من التمسك بالجذور والأصول ، وللدرجة التي تصل أحياناً إلى التطرف والتكفير ،
ولكن بعد عقود وعندما تمر الجماعات بمراحل من الضغوط والمواجهات والمحن ،
عادة ما تكون الانشقاقات أو التراجعات في اتجاه مزيد من التخفف أو التخلص من
عبء بعض الثوابت ، وأقرب مثال على ذلك ( جماعة الإخوان المسلمين ) ففي
مصر ، في مرحلة الستينيات كانت أبرز الانشقاقات في اتجاه التكفير ، وتمثلت في
( جماعة التكفير والهجرة ) التي انشق مؤسسها عن فكر الإخوان ، ولكن في
السنوات الأخيرة كانت أبرز الانشقاقات متمثلة في ( حزب الوسط ) تحت التأسيس ،
والذي يخطو بقوة في اتجاه التوافق مع النظام وتيارات المجتمع العلمانية أو غير
المسلمة .
      هذه الحقيقة التاريخية تعطينا نتائج هامة ، لعل من أبرزها : أن أهم آلية
لاحتواء السلفيين ومن ثم السلفية في الوقت الحالي هي في ممارسة مزيد من
الضغوط والحصار عليهم ، وأخطر وسائل الضغط وعلى غير ما يتوقع الكثيرون
هو أن يُفتح المجال أكثر للرموز السلفية كي يخرجوا من ميدانهم الرئيس ، ويبرزوا
للعلن وللجماهير من خلال الإعلام وفي ميادين لا يملكون أدواتها ؛ حيث يواجهون
عالماً تغيرت مفاهيمه وثوابته وأصبحت له قواعده الخاصة ، وعندها سيجد
السلفيون المطروحون للعلن أنه لا بد من تقديم جوازات المرور المتمثلة في
التخلص من عبء بعض الثوابت ، ولا بأس من طمأنة الغيورين ودغدغة
مشاعرهم بأنه لا يوجد تغير أو تراجع ، ولكن كل ما في الأمر أنه لا بد من التعامل
مع الإعلام بقدر من المداراة والمواربة .
      ولكن على الجانب الآخر فإن تراجعات السلفيين تمثل لخصومهم بيضة القبَّان
التي لا تُترك ؛ فسرعان ما يضعون أيديهم في الشق المتسع في قناعات الرموز
المتراجعة ليزيدوه اتساعاً وتراجعاً ، وليتراكم كل ذلك في خانة المنهج السلفي ،
لتصبح مهمة الدعوة السلفية ، كما يُبرزها هؤلاء ، ليست في ضبط مؤشر
الانحرافات في المجتمع لكي يقترب أكثر من الإسلام ، ولكن في ضبط مؤشر
الالتزام لكي يقترب أكثر من المجتمع تحت شعار تصحيح المفاهيم .
      وهناك آلية أخرى لاحتواء الفكر السلفي ، وهي ضغط الاعتقال ، وقديماً
كانت السجون تعتبر أحد محفزات الغلو والتكفير كما حدث في مرحلة الستينيات في
مصر ، ولكن في السنوات الأخيرة أصبحت السجون عاملاً حافزاً للتراجعات
والمراجعات كما حدث مع الجماعة الإسلامية في مصر أيضاً .
      والمشكلة الأساس في قضية الاحتواء أن الرمز السلفي الذي يتم احتواؤه ومن
ثم تراجعه عن مقتضيات السلفية ، لا يقر بتراجعه أو تنازله ، بل يعتبر ذلك تجديداً
وتطويراً يُنسب للمنهج السلفي ، وذلك هو بيت القصيد بالنسبة لخصوم السلفية ؛
لأنه لو أعلن الرمز المتراجع عن تغيير انتماءاته لما كان لتراجعه أي فائدة ؛
فالهدف المنشود هو تغيير معالم المنهج السلفي بأيدي أبنائه أنفسهم ، يعني : تفكيك
السلفية من الداخل .
      ومن هنا تنبع أهمية التنقية المستمرة للمنهج السلفي من العلائق التي تنسب
إليه مع تكاثر الضغوط وتتابع المحن ، وأيضاً تربية السلفيين والجماهير على
الارتباط بالمنهج والحق والثوابت بغض النظر عمن يتبعها أو يدعو إليها ، وكفانا
تمجيداً للشخوص على حساب الأفكار ؛ فنحن في عصر أصبح فيه الثبات عملة
نادرة ، وهذا ما لفت إليه أحد علماء السلف عندما جاءه رجل متحمس فقال له :
أتناظرني ؟ فرد عليه قائلاً : فإن غلبتني ؟ قال الرجل : تتبعني .. قال العالم : فإن
جاء ثالث فغلبنا ؟ قال الرجل : نتبعه .. فقال العالم : إذن يصبح ديننا التنقل !
      وحتى لا تصبح السلفية مرادفاً للتنقل كما يريدها خصومها ، ينبغي أن نعيد
التأمل مرات ومرات في حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي يحفظه كل
السلفيين : « تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله ، وسنتي ، ولن
يتفرقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض » ( رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - ، وصححه
الألباني في صحيح الجامع رقم 2937 ) .
      وكما نرى في الواقع فإن هناك طريقتين للتمسك بالكتاب والسنة : إحداهما :
بحملهما على الأكتاف ، حيث يصبحان ثقلاً وعبئاً على حاملهما ، ومثل ذلك يشغله
الشعور بالعبء عن تلمس النصح والتوجيه . والطريقة الأخرى للتمسك بالكتاب
والسنة في دفعهما للأمام من أجل الهداية والإرشاد ، وفارق كبير بين من يتخذ
القرار أو الحكم ثم يبحث عما يؤيده أو يلمح إليه من آية أو حديث ، ومن يبحث
فيهما أولاً ليتخذ قراره وحكمه وفق ما ترشد إليه الآيات والأحاديث .
* إقصاء السلفية :
      في أوقات سابقة في بعض الدول الإسلامية كان تصريح أحدهم : أنا سلفي ..
يعد بمثابة إذن مرور لممارسة كثير من الأنشطة والتحرك الدعوي بحرية ويسر ،
ولكن الآن أصبح الوضع مختلفاً ، وأصبحت السلفية في قفص الاتهام في بلدان
كثيرة ، وبات السلفيون تحت المجهر ؛ فما الذي تغير ؟ إنه ببساطة : الإقصاء .
      والمنطلَق الأول لتبرير وتسريع إقصاء السلفية هو الربط التعسفي بين السلفية
العلمية والدعوية وبين السلفية الجهادية ، ويمارس الكُتَّاب الغربيون الخلط بين
التيارات الإسلامية المختلفة ، والخلط بين مبادئها ومفاهيمها بعلم أو بجهل أحياناً .
يقول أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي : « عقيدة الوهابيين تنص على قتل كل من
هو غير وهابي » وكتبت الصحفية الأمريكية ( سوزان سميث ) في الواشنطن
بوست : « الأشخاص الذين لا يعتنقون الوهابية يعتبرون كفاراً » ( راجع موقع
إسلام ديلي ) .
      إنها إذن استراتيجية متعددة المراحل : استبدال - احتواء إقصاء . وهذا يعود
بنا إلى السؤال المطروح في مقدمة المقال عن كيفية مواجهة التيارات السلفية ؛
فالإجابة الصحيحة تتضمن الخيارات الثلاثة وليس خياراً واحداً .
      ولا ريب في أن هذا التنوع في مواجهة السلفية يبدو متناسباً أكثر مع كون
التيارات والفكر السلفي يتفاوت حجم ومستوى انتشاره بين البلدان الإسلامية ، ومن
ثَم لا بد أن تختلف طرق مواجهته من المنظور الغربي ؛ فبعض الدول حققت
إنجازات مسبقة وتجاوزت مرحلة الاستبدال بالفعل ، وهي الآن ما بين الاحتواء
والإقصاء مثل مصر ، وبعض الدول تجاوزت المراحل الثلاث مثل تونس و ليبيا ،
ودول أخرى لا تزال بين الاستبدال والاحتواء . هذا التحليل يفرز لنا نتيجة بالغة
الأهمية ، وهي أن سياسة الاحتواء تمثل عاملاً مشتركاً حالياً في عدد كبير من
الدول الإسلامية وهو ما يستدعي متابعتها والتعليق عليها ، ولكن ربما يتيسر ذلك
في مقالات أخرى بمشيئة الله - تعالى - .
________________________

(( مجلة البيان ـ العدد [221] صــ 60    المحرم 1427 - فبراير 2006 ))

ليست هناك تعليقات: