الخميس، 29 مارس 2012

الإسلام السياسي


الإسلام لعصرنا
الإسلام السياسي
أ . د . جعفر شيخ إدريس [*]
jaafaridris@hotmail.com
      عبارة ( الإسلام السياسي ) كأختها ( الأصولية ) صناعة غربية استوردها
مستهلكو قبائح الفكر الغربي إلى بلادنا وفرحوا بها ، وجعلوها حيلة يحتالون بها
على إنكارهم للدين والصد عنه . فما المقصود بالإسلام السياسي عند الغربيين ؟
كان المقصود به أولاً الجماعات الإسلامية التي انتشرت في العالم العربي وفي
باكستان و الهند و أندونيسيا و ماليزيا وغيرها تدعو إلى أن تكون دولهم إسلامية
تحكم بما أنزل الله تعالى .
* ما الذي يأخذه خصوم الإسلام السياسي عليه ؟
      أما الغربيون فاعتبروه أولاً ظاهرة غريبة بعد سني الحكم الاستعماري الذي
ظنوا أنه وطَّد الحكم العلماني على المنهاج الغربي ، ووضع أسساً متينة للتبعية
وضمان المحافظة على المصالح الغربية . فشق عليهم أن تنبت في بلاد المسلمين
نابتة تعارض هذه العلمانية التي يرونها تعم العالم بأسره .
كيف تنشأ جماعات تسير عكس هذا التيار العالمي ، وتدعو إلى الرجوع إلى حكم
ديني إسلامي ؟
      وثانياً : لأن الرأي السائد بينهم لا أقول الذي يعتقده كل واحد منهم هو أن
الدين ينبغي أن يكون شأناً فردياً بين العبد وربه ، لا مدخل له في الحياة العامة ولا
سيما السياسية منها التي يرون أن تكون متروكة لما يراه الناس ، وأن تكون مبنية
على المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم .
      وثالثاً : لأن الرأي الشائع بينهم أن النصوص الدينية محدودة بزمانها ومكانها
الذي ظهرت فيه ، وأنها لذلك ينبغي أن لا تفهم على ظاهرها ، بل يجب أن تؤوَّل
تأويلاً يجعلها متناسبة مع ثقافة العصر .
      ورابعاً : لأن منهم من ظن أن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله تعالى ظاهرة
جديدة لم تكن في الإسلام من قبل ؛ فلذلك ناسب أن توصف بالإسلام السياسي تمييزاً
له عن الإسلام الديني .
      وخامساً : لأنهم رأوا فيها صورة من صور استغلال الدين للمآرب السياسية .
      لهذه الأسباب وأمثالها كانوا وما يزالون شديدي العداوة الفكرية والعملية
للجماعات التي تتسم بما أسموه بالإسلام السياسي ، يحرشون الحكومات عليها ،
ويدعونها لكبتها حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية التي كانت سائدة آنذاك
في العالم الإسلامي ، والتي استفادت منها تلك الجماعات . ويكتبون الكتب
والمقالات ، ويسخرون سائر وسائل الإعلام لحربها . ينصرهم في هذه الحرب
أذنابهم المنافقون في بلاد المسلمين الذين يقتاتون على فضلات فكرهم ودعاياتهم .
وقد امتدت حربهم في أيامنا هذه للدول التي تؤمن بمبدأ تطبيق الشريعة .
      ولما كان الغربيون يرون أن ما هم عليه من دين أو فكر أو ثقافة أو حتى
عادات في المأكل والملبس والجد واللعب ، بل وما كان لهم من تاريخ وما مارسوه
من تجارب ، وسائر ما ألفوا من جوانب الحياة ، هو الأمر الطبيعي ، وأن ما خالفه
هو الشذود الذي يحتاج إلى تفسير ؛ فقد اجتهد بعضهم في أن يجد تفسيراً لهذه
( الظاهرة ) . فكان مما سلُّوا به أنفسهم أنها نتيجة لظروف طارئة هي الحكم القهري
والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري الذي ابتليت به البلاد التي ظهرت فيها هذه
الحركات ولا سيما العالم العربي ، وأن علاجها لذلك هو الضغط على تلك
الحكومات لتكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية ، ومساعدتهم على شيء من النمو
الاقتصادي يحسن من أوضاع الشباب المتذمرين ؛ فإذا ما حدثت هذه الإصلاحات ،
وزالت الأوضاع القديمة زالت بزوالها نتائجها التي من أهمها ظاهرة الإسلام
السياسي .
      ونقول إن ما ذكروه من أسباب ربما كان فعلاً من عوامل تشجيع ما يسمونه
بظاهرة الإسلام السياسي ، لكن مما لا شك فيه أنه ليس منشأها . فكل من له أدنى
معرفة بدين المسلمين وتاريخهم يعلم أن قضية الالتزام بما أنزل الله في شؤون
السياسة والحكم هي أمر عريق فيه : في نصوص كتابه ، وسنة نبيه ، وأقوال
علمائه . وأن تصديق ذلك في واقعه التاريخي الذي لم يعرف شيئاً اسمه الحكم
العلماني ، وأن هذا الحكم إنما فرض عليه من خارجه يوم استولت جيوش الغرب
على بلاده . وحتى هذه العلمانية الدخيلة لم تبلغ مبلغ علمانيتهم في مدى بُعدها عن
الدين ، حتى إن الكثيرين منهم لينفون أن تكون حكومة من حكومات العالم الإسلامي
علمانية ، ويرون أنه من الخطأ لذلك أن توضع الإسلامية ( بمعنى النشاط السياسي
للحركات الإسلامية ) في مقابل العلمانية [1] .
      وإذن فالقول بأنها مجرد استغلال للدين لتحقيق أهداف سياسية ليس بصحيح
أيضاً : أولاً : لأن من أعظم من دعا إلى الحكم بما أنزل الله وبيَّن أنه جزءٌ لا
يتجزأ عن دين الإسلام علماء أعلام لم تكن لهم أطماع سياسية ، ولا كانت لهم في
يوم من الأيام علاقة بالأحزاب الإسلامية السياسية ؛ علماء من أمثال : الشيخ محمد
بن إبراهيم ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، والشيخ
عبد العزيز بن باز .
      هل استغل بعض الأفراد وبعض الجماعات الدينَ لتحقيق أهداف دنيوية
سياسية أو غير سياسية ؟ نعم ! وقد ظل كثير منهم يفعل ذلك على مر التاريخ ،
ومع كل رسالات السماء . ولا أعرف كتاباً تطرَّق لهذه المشكلة وبيَّن أسبابها وأنواع
مرتكبيها ونتائجها وحذر منها مثل كتاب الله تعالى . فعلى الذين يتحدثون عن هذه
المشكلة أن يعلموا أنهم لم يأتوا بجديد . إن هؤلاء يدعوننا لأن نترك ديننا ؛ لأن
بعض الناس استغله لأسباب سياسية . ولو تابعنا منطقهم هذا لتركنا بناء المساجد ؛
لأن بعض المنافقين استغل بناءها لأسباب سياسية ، فاتخذها : ] ضِرَاراً وَكُفْراً
وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ [ ( التوبة :
107 ) .
      وكانوا مع ذلك يحلفون بأنهم ما أرادوا إلا الحسنى : ] وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ
الحُسْنَى [ ( التوبة : 107 ) .
      ولو أتبعناه لتركنا الإنفاق في سبيل الله ؛ لأن بعض الناس يتخذ ما ينفق مغرماً
( أي غرامة ) ويتربص بنا الدوائر ، ولقررنا أن لا يكون لنا علماء ؛ لأن بعض
علماء السوء يستغل علمه لأغراض دنيوية : ] وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ
مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ
مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ
إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ [ ( التوبة : 98-
100 ) .
      وكما أن بعض الناس يستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية فيكون انحرافه
بسبب سوء قصده ، فإن آخرين ينحرفون بسبب سوء فهمهم وقلة علمهم ، فيحاولون
تحقيق بعض الأهداف السياسية بوسائل وطرق مخالفة لدين الله وتحريفاً له وفتنة
للناس عنه ؛ فهل نترك العمل السياسي على أساس ديني ؛ لأن بعض الناس يسيء
فهم الدين ؟
      يقول بعض الغربيين : ( لكن المشكلة أن كل إنسان يمكن أن يدَّعي أن فهمه
هو الفهم الصحيح للتوراة أو الإنجيل أو القرآن ، بل يزعم بعضهم أنه [ يعني
القرآن ] كالكتاب المقدس : العهد القديم والعهد الجديد بإمكانك أن تجد فيه أياً ما تريد
لتسوّغ به كل ما تريد تقريباً ) [2] ، نقول فرق بين أن يدّعي مدّع أن ما استدل به
من قول يدل على ما يريد وأن يكون دالاً فعلاً على ما يريد . أما القرآن فنحن نعلم
أنه وهو كتاب الله لا يمكن أن يدل على الشيء ونقيضه ] أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [ ( النساء : 82 ) .
      يقول بعضهم : « إذا سلَّمنا بهذا فتبقى مشكلة هي أن النص بحسب معناه الذي
تدل عليه ألفاظه ويدل عليه سياقه لا يتناسب مع ثقافة العصر ؛ فلا بد إذن من
تأويله لجعله مناسباً معها . لكن أليست هذه دعوة إلى خداع النفس ؟ أنت تقرأ نصاً
تقول : إنه كلام الله ، وتفهمه على وجهه الصحيح ، ثم تقول : إن هذا الذي فهمته
لا يتناسب مع ما أريد ، لذلك يجب أن أغيِّره لكي أجعله مناسباً مع ما أهوى ، ثم
تقول : إن هذا الذي هويت هو ما عناه الله تعالى بكلامه . هل يقول هذا إنسان
مؤمن ؟ بل هل يقول هذا إنسان أمين يحترم نفسه ؟ إنك إما أن تعتقد أن ما يقوله
الله هو الحق كما قاله ، وإما أن تعتقد أنه ليس بالحق أو ليس بالعدل ، فتقول : إنه
لا يمكن أن يكون كلام الله ، فتكفر بالكتاب الذي كنت تظن أنه كلام الله . أما أن
تجمع بين الفهم الصحيح والتحريف فلا . وهذا الأمر المنكر خُلُقاً وديناً هو الذي
حذرنا الله تعالى من الاطمئنان إلى ممارسيه : ] أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ
فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ ( البقرة :
75 ) .
      تأمل قوله تعالى : ] ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ أي إنهم
فهموا ما قال الله تعالى وتصوروه على وجهه الصحيح ، ثم عمدوا إلى تحريفه وهم
يعلمون أنهم محرفون له .
      ثم نقول : إن الدين الحق إنما جاء لنفع الناس في دنياهم وآخرتهم ، فلا يمكن
أن يكون فيه ما يمنع من الأخذ بشيء هو من ضرورات العصر ، أما أهواء العصر
وما يشيع فيه من قيم وأفكار وعادات وتقاليد فإن الدين لم يأت لموافقتها ، بل جاء
لإقرار ما فيها من حق وإنكار ما فيها من باطل ؛ فالمعيار هو كلام الله لا أهواء
البشر .
      ثم إن كثيراً مما يسمى بثقافة العصر مما يخالف الدين الحق ليس هو في
حقيقته بالأمر الجديد الذي يقال إنه مما امتاز به عصرنا ، وإنما هو الثقافة التي
اتسمت بها الجاهلية على مر العصور . خذ مثلاً استبشاعهم للحدود ولا سيما حد
الزنا ودعوتهم إلى تغييره . هذا الحد موجود في التوراة ، لكن اليهود غيروه حتى
قبل مجيء النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الذي دعاهم إلى ذلك هو
فُشُوُّ الزنا بينهم ولا سيما في أشرافهم . وهذا هو عين السبب الذي يدعو الغربيين
وأمثالهم إلى استبشاع هذا الحد . إن الناس إذا فشت فيهم الفاحشة واعتادوها مات
فيهم الشعور بأنها فاحشة ، ودعك أن تكون جريمة تستحق هذه العقاب الأليم !
________________________
( * ) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة .
(1) انظر مثلاً :
International Crisis Group, Middle East and North Africa, Briefing,
Islamism in North Africa1 : the Legacies of History, p5,
www.crisisweb.org
(2)Graham Fuller, The Future of Political Islam, Carneigie Council on
Ethics and international Relations, www.ccia.org ,p4 .

(( مجلة البيان ـ العدد [202] صــ 62    جمادى الآخرة 1425 - يوليو 2004 ))


ليست هناك تعليقات: